حاجتنا إلى الإصلاح الاجتماعى
نظرة سريعة إلى أحوالنا تؤكد حاجتنا إلى ما اجتهدت وأسميته «الإصلاح الاجتماعى» وهو مصطلح فضفاض يغطى مساحات شديدة الاتساع من حياتنا.. ولكى يكون الكلام محددًا فإننى أريد أن تكون النظرة لأحوالنا هذه المرة عبر صفحة الحوادث.. أو عبر عدد من الجرائم الكبيرة التى تشغل الرأى العام لما تنطوى عليه من قسوة أو غرابة، أو لما كان يربط القاتل والقتيل فيها من أواصر قوية، سواء أواصر الدم أو أواصر العواطف الحارة، وسواء كانت من طرف واحد أو من كلا الطرفين.. ولعل آخر هذه الجرائم وأكثرها بشاعة.. تلك الجريمة التى قامت فيها ابنة مع عشيقها بقتل الأم بعد أن هددتهما بفضح أمرهما لدى والد الفتاة ولدى رجال العائلة.. وهى جريمة بشعة بكل تأكيد.. وما دامت الجريمة قد وقعت فلا بد من عقاب مرتكبها والقصاص منه مهما كانت الظروف والملابسات.. لكننا يمكن أن نستفيد من الواقعة نفسها فى فهم أنماط العلاقات فى مجتمعنا وفى محاولة إصلاح بعض المفاهيم أو تعديلها لتلائم تطورات الزمن.. إن هذه الجريمة فى جوهرها هى «جريمة شرف مضادة» أو «جريمة مضادة للشرف»! وجريمة الشرف، كما هو معروف، هى الجريمة التى يقدم فيها الأب أو الأخ أو ربما الابن على قتل امرأة من الأسرة لأنها أقامت علاقة خارج مفهوم الزواج أو علاقة غير شرعية.. فى هذه الجريمة استبقت الفتاة القاتلة والدتها قبل أن تبلغ رجال العائلة وقتلتها بأسلوب لا يخلو من قسوة وعشوائية وبشاعة.. والنتيجة أننا أمام مأساة حقيقية فقد فيها الأب زوجته وابنته.. وفقد الأبناء والدتهم وأختهم.. ولاكت الألسن سمعة الجميع بالحق وبالباطل.. إننى أظن أن هذا المفهوم الذى أدى لكل هذه النتائج المروعة فى حاجة لأن يتغير وأن يتم استبداله بمفاهيم أخرى لدى المواطن العادى وليس لدى النخب المثقفة والمتعلمة فقط.. ربما كانت الأم، رحمها الله، فى حاجة لأن تقتنع بمفهوم آخر هو استيعاب الأبناء وإن أخطأوا.. وهذا مفهوم تربوى مهم ومتفق مع صحيح الدين.. وربما كانت فى حاجة لأن تقتنع بمفهوم آخر هو «الستر» وأننا لا يجب أن نفضح ما ستره الله من عيوب وخطايا.. وربما كانت فى حاجة لأن تقتنع بمفهوم دينى ثالث وهو أن «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».. وربما كانت فى حاجة لأن تقتنع بمفهوم رابع وهو أن «كل نفس بما كسبت رهينة» وأن ابنتها كان يمكن أن تتعلم من خطئها مع الوقت.. فتكتشف أن هذا الشاب الذى تعلقت به غير مناسب لها.. فتتركه وتشق طريقها فى الحياة مثل ملايين الفتيات غيرها عبر التاريخ فى كل المجتمعات.. وربما كانت الأم فى حاجة للاقتناع بمفهوم دينى خامس وهو أمر النبى، صلى الله عليه وسلم، للمؤمنين «لا تجبروا فتياتكم على الزواج».. إذ إننا نعرف فى خلفية القصة أن الفتاة كانت مخطوبة وأن هذا ما صعد المواجهة بينها وبين ابنتها التى تمسكت بعلاقتها بشاب آخر.. إن هذه مأساة اجتماعية بكل تأكيد.. سببها أن المفاهيم التى تسيطر على عقول معظمنا قديمة وبالية وربما كانت مخالفة لجوهر الدين وصحيح الشريعة.. والأهم أنها مخالفة لتطورات العصر وأفكار الأجيال الجديدة المنفتحة على العالم عبر الإنترنت.. بخيره وشره وجواهره ونفاياته وتقاليدنا وتقاليد غيرنا.. ولعل هذا هو أحد أوجه المأساة.. أما وجهها الآخر فهو أن هذه الأم الشهيدة لم تؤمن بحق ابنتها فى الخطأ أو حقها فى استيعاب الأهل لها أو حقها فى الاختيار الخاطئ والتعلم منه.. وهى كلها سيناريوهات كانت أفضل بكل تأكيد مما سارت عليه الأمور وراحت الأسرة بكاملها ضحية له.
نفس المعنى يقفز إلينا حين نعود لقضية أخرى لا تقل شهرة، وهى قضية «فتاة المنصورة» التى قتلها زميل سابق لها لأنه لم يقتنع بحقها فى اختيار طريقها الجديد، ولا بحقها فى رفضه، ولا بحقها فى احتراف الفن، لأن هذا الشاب المختل لم يتربَ يومًا على احترام الحرية الشخصية للآخرين.. ولا على احترام حق المرأة فى أن تختار نمط حياتها ما دامت ستتحمل ثمن اختيارها.. بل لعله تشكل وعيه على أسطورة «شفيقة ومتولى» التى تمجد جريمة شرف أقدم فيها شاب صعيدى على قتل أخته بعد أن ضلت الطريق.. والقياس هنا مع فارق الزمان والمكان والمناخ الفكرى السائد.. ولعل ظهور أصوات شاذة تتعاطف مع القاتل يكشف إلى أى مدى ينتشر عدم الإيمان بحرية الآخرين بيننا ويكشف كم هى شائعة القناعة بحق الرجال فى ارتكاب الجرائم ضد النساء تحت مسمى حماية الشرف.. والحقيقة أن هذه كلها مفاهيم بالية.. تخالف الشريعة وتخالف منطق الحرية والمسئولية الفردية وتخالف منطق حق كل إنسان فى أن يخطئ وأن يتعلم من خطئه.. وهى تؤدى إلى تعاسة من يعتنقها وإلى تعاسة آلاف الضحايا من النساء والرجال فى الأسر التى يعتنق الآباء والأمهات فيها هذه الأفكار.. وهى تؤدى إلى ملايين من قصص التعاسة الزوجية أو الخيانات المختلفة للفطرة والدين أو الطلاق المبكر وغير المبكر الذى نشكو من انتشاره دون أن نفكر فى السبب الرئيسى فيه.. وهو أننا فى حاجة لإصلاح اجتماعى.. هذا الإصلاح يعلم الآباء والأطفال أن يحترموا الحرية الشخصية لبعضهم البعض وأن يحلوا مشاكلهم بعيدًا عن التهديد والوعيد.. ويعلم الآباء أن يحتضنوا أبناءهم وبناتهم حتى وإن أخطأوا.. وأن يختاروا الستر بدلًا من الفضيحة، والحنان بدلًا من القسوة، وعلاقة الصداقة مع الأبناء بدلًا من علاقة التسلط وإصدار الأوامر.. وهى ضرورات لا يفرضها الوعى بصحيح الدين فقط ولكن أيضًا تطورات الزمن والعالم.. ولعل الدراما الاجتماعية يكون لها نصيب فى نشر هذه المفاهيم وممارسة هذا الإصلاح.. ولعل مناهج التعليم يكون لها نصيب فى زرع قيم احترام الآخرين واستيعاب المخطئ.. ولعل الإعلام يكون له نصيب فى محاربة المفاهيم البالية وزرع المفاهيم الحديثة.. هذا هو اجتهادى الشخصى فى هذه القضية الشائكة.. والله أعلى وأعلم.