«عهد دميانة».. رواية تحاول قراءة الحاضر من خلال التاريخ
إن التاريخ هو الورقة الرابحة دائمًا، فإن التاريخ يعيد نفسه دائمًا وهو الأرض الخصبة لمناقشة قضايا حالية عن طريق استرجاع أحداث مشابهة، ولذلك فإن الرواية التاريخية هى الحصان الرابح الآن فى الأدب وهذا هو سبب رواجها الحالى الكبير.
فى روايتنا «عهد دميانة» للكاتب الدكتور أسامة الشاذلى الصادرة عن دار الرواق يتم العروج إلى عصر شديد الخطورة وشديد الحساسية وهو أواخر عهد الدولة الفاطمية وخاصة عصر الوزراء وبين عامى ١١٤٦ و١١٦١ فى خلال خمسة عشر عامًا من الأحداث الشائكة، ومع كثرة المذاهب فالدولة مسلمة شيعية المذهب، والمصريون رغم السنوات لكنهم مسلمون سنيو المذهب، ويوجد المسيحيون بطبيعة الحال.
نبدأ روايتنا فى قرية أبوحنس ونرى صاحبة اسم الرواية دميانة الطفلة التى تعيش فى القرية مع أمها وهما مسيحيتان تعيشان مع بعضهما وتذهبان للدير، تبدأ الأحداث عندما يأتى التاجر ويخبر الأب سمعان الذى بلغها بموت يوسف بن صدقة ويعطيها صندوقًا فتعطيه لدميانة وتخبرها بأن هذا ميراث أبيك يا دميانة. نبدأ باسترجاع الأحداث فنعرج لبداية حياة يوسف بن صدقة الذى نكتشف مع مرور الأحداث أنه البطل الرئيسى وليست دميانة.
نبدأ فى معرفة قصة أم يوسف ورد وعلاقتها بعلى بن السلار والى الإسكندرية فى ذلك الوقت، وكيف تزوجت من أبيه وأنجبت يوسف، وينير لنا الكاتب نقطة أن يوسف أبوه ملكانى وأمه أرثوذكسية والرجل الذى رباه بعد موت أبيه على بن السلار المسلم سنى المذهب والدولة المسلمة شيعية المذهب الذى يعيش فيها فتبدأ تساؤلاته منذ شبابه عن أى مذهب وأى دين يدين به، تبدأ رحلة بحثه عن نفسه من يكون يوسف بن صدقة؟ هذا السؤال الذى يوجهه يوسف لنفسه طوال أحداث الرواية.
نعرج معه إلى علاقته بعلى بن السلار وعمله ككاتب لديه فى دار الإمارة بالإسكندرية وولعه بالحمام الزاجل والمراسلات، ونرى قصة حبه مع يوستينا جارية حفيد ربيب على بن السلار وخطيئته معها ثم هروبها وهى تحمل نطفة منه، وعقابه على تلك الخطيئة التى لا تغتفر فى جميع الأديان بالصلب، وكيف أنقذته أمه ورد من الصلب والقتل بعهد أمانها من على بن السلار الذى أصبح الوزير وكيف ترك مدينة ميلاده وموطنه الإسكندرية وانتقاله إلى الفسطاط التى ستغير حياته مرة جديدة. كيف يبدأ فى السكن مع أمه وعمله بالوراقة وفتحه لحانة خصيصًا لهذا العمل، والكتاب الذى يقع تحت يده لينسخه فيزيد حيرته وشكه وتساؤلاته أكثر وأكثر بسبب عبارات الحب الإلهى التى يقرأها فيه، وكيف تبدأ علاقته بموهوب فى الحانة التى تجعله ينضم إلى المجموعة التى تراسل نورالدين محمود من أجل إنقاذ دمياط من الفرنجة وكيف لا يكون معهم وهو يعشق الحمام الزاجل. يعثر على ابن يوستينا حبيبته الحسين ويبدأ فى تربيته على أنه ابنه ويتركه على دين أبيه وتنشأ بينهم علاقة أبوة وبنوة فريدة. نمر فى خضم تلك الرحلة الشاقة على ما كان يحدث لمصر وحكامها والاغتيالات التى كانت تحدث فى ذلك الوقت مثل اغتيال على بن السلار نفسه وكيف انتقم له يوسف بنفسه وكان هذا لقاءه الأول بالحسين. بل إن التحاقه بتلك الحركة هو ما سيرجعنا لحدث وسن التى عندما يذهب إلى قوص من أجل مراسلة نورالدين محمود نرى حكايتها وكيف كانت مصر تعانى وقتها من فتنة طائفية حقيقية وكيف مات أبوها مينا لقوله الحق، وعلاقتها مع ابن عمها بطرس ونرى حبها للبتولية، ويقوم يوسف بإنقاذها مرات ومرات من القتل وينقذ سمعتها وتصل لأن يصطحبها معه إلى قرية أبى حنس بعد توصية من الشيخ إبراهيم النصرانى الذى نكتشف فيما بعد سر تعلق يوسف وإبراهيم ببعضهما البعض. نرى عودة يوسف للفسطاط بدون وداع لوسن وكيف يحرك ذلك مشاعرها عن البتولية لأول مرة، ومقابلته لابنته دميانة لأول مرة بعد موت أمها يوستينا فى طرطوس من الطاعون وكيف يعيش معها ومع الحسين وكيف يحبهما ثم يحدث حدث اختطاف الحسين الذى بسببه يعود يوسف لقرية أبى حنس تاركًا دميانة لوسن يتركها لها وتنقذه وسن هذه المرة بعد أن تتعلق به بل ويتعلق هو بطيبتها وصدقها. فى خضم بحثه عن الحسين يرى الشيخ ابن الكيزانى الذى قابل طيفه عندما كان طفلًا وظل هذا يؤرقه طوال حياته وكان من أسباب حيرته وشكه بل وكانت تخاف أمه عليه من هذا الحدث، ويدخل غرفته ليخرج منها شخصًا آخر وجد نفسه حتى عندما تم الإمساك به وهو يهرب حسين، وظل شهورًا مسجونًا فى غرفة مظلمة كان يعلم أخيرًا وهو يجلس وحيدًا من هو، عرف أن حب الله أكبر من الخوف والكره وأكبر من أى مذهب، عشق الله بعدما بحث عنه كثيرًا، ليتعلق به سجانه حتى عندما يموت ويهيم به شوقًا، ويظهر وصوله لمدارك نفسه فى وصيته التى تركها مع فتاة يحيى ليوصلها فيما بعد صديقه موهوب إلى وسن لنعود للمشهد الأول فى الرواية وتترك وسن كل حياة البتولية وحتى الحياة التى كانت تريدها لدميانة لتذهب للفسطاط وتنفذ وصية يوسف بتربيتهما معًا تاركًا لها قطعتين منه ليحيا معها حتى بعد موته. بعد رحلة طويلة بلغة فى منتهى القوة والبلاغة وسرد فى منتهى السلاسة وشخوص كثيرة تشابكت مصائرهم ليس لنفتح صفحة أغلقت من تاريخنا بل لتؤكد الرواية على أهمية البحث عن الحقيقة، البحث عن النفس فى المقام الأول، عن ماهيتنا بدون أى ضغوطات، ربما بعد تلك الرحلة تحس بقربك من نفسك.