واقعة «البيجامة» وفساد البيروقراطية المصرية
بمناسبة الجدل حول تطوير شركة المحلة للغزل والنسيج وضخ استثمارات جديدة فيها أريد أن أروى الواقعة التالية.. توجهت لمنفذ بيع خاص بشركة قطاع عام للملابس.. كان هدفى شراء «بيجامة» شتوية من الطراز القديم.. أول ما لفت نظرى رخص السعر الشديد بالمقارنة بمحلات القطاع الخاص ذات العلامات الشهيرة.. فأعلى سعر لـ«البيجامة» فى معرض القطاع العام أقل من نصف سعر المنتج نفسه فى القطاع الخاص أو ثلثه أحيانًا.. وكان ثانى ما لفت نظرى هو جودة الأقمشة المصنوعة منها «البيجامة» فهى من القطن الخالص ذى الملمس الناعم ولا يدخل فيها المكون الصناعى الرخيص، والذى هو فى الأساس أحد مشتقات البترول «البوليستر» وهذه ميزة عظيمة ترفع سعر الملابس ذات الخامة الطبيعية لعنان السماء.. وهذه إيجابية أخرى.. أما السلبيات فكانت أن المقاسات غير منضبطة لحد التهريج.. أى شركة ملابس فى العالم يجب أن تكون مقاساتها موحدة ومثالية.. فإذا قلت للبائع إنك طوال حياتك ترتدى مقاسًا معينًا فإن منتج الشركة يجب أن يكون مطابقًا للمواصفات فى هذه الجزئية.. ولكن الحقيقة أننى عندما شرعت فى ارتداء هذه «البيجامة» فوجئت بأنها تشبه بدلة الفنان سمير غانم فى مسرحية المتزوجون.. فالأكمام طويلة بشكل مبالغ فيه! والأقدام واسعة بشكل يثير الضحك.. والأمر كله يوحى باستهتار وإهمال يجب محاكمة من قام به.. وربما ضاعف من هذا عدم مهنية البائع أو اهتمامه باختيار المقاس الصحيح لأنه يحصل على راتبه فى كل الأحوال ما دام معينًا فى شركة قطاع عام.. بل ويحصل على نصيبه من «الأرباح» أيضًا رغم أن الشركة تحقق خسائر.. وربما يتظاهر مع زملائه فى بعض السنوات إذا لم تصرف الشركة هذه «الأرباح» الوهمية.. وربما نلتمس له العذر أيضًا فى ضوء ارتفاع الأسعار مما يدفعه للحصول على الأرباح الوهمية باعتبار أن الحكومة مسئولة عنه وعن معيشته وفق العقد الاجتماعى القديم الذى أقرته ثورة يوليو ولم تستطع قرارات الانفتاح والرسملة وتمكين القطاع الخاص من تغييره أو إيجاد بديل له.. هذا العامل غير الكفء الذى لم يهتم بإتقان عمله هو بكل تأكيد مسئول عن تراجع مستوى شركته رغم جودة إنتاجها ورخص سعره.. كما أن الإدارات المختلفة لهذه الشركات المتشابهة كلها فى عيوبها ومميزاتها تتحمل المسئولية بكل تأكيد.. فضلًا عن الحكومات والنظم السياسية المختلفة التى سمحت بهذا التدهور فى شركات القطاع العام التى حملت مصر على كتفها طوال سنوات المعركة وحتى التحرير دون كلل ولا ملل ولا فشل ولا شكوى.. حيث كانت شركات القطاع العام تلبى احتياجات المصريين من الصابون وحتى السيارات دون استيراد قشة من الخارج اللهم إلا مستلزمات الإنتاج.. لا أستطيع أن أتعرض للموضوع دون أن أذكر موقفًا آخر عايشته فى حدود عام ٢٠٠٣ حيث قادتنى قدماى لمعرض سيراميك تابع لشركة قطاع عام.. وكانت هذه هى المرة الأولى التى أسمع فيها عن وجود شركة سيراميك قطاع عام.. لأنها لا تعلن عن نفسها.. ومثلما حدث فى شركة المنسوجات تمامًا.. لفت نظرى رخص سعر المنتج وجودة الخامات المستخدمة من حيث وزن «بلاطة السيراميك» ولمعتها.. لكن العيب القاتل كان فى التصميم والألوان.. التى من المستحيل أن يقدم عاقل على وضعها فى منزله.. وهو ما دفعنى لمعاتبة مدير المعرض الذى كان رجلًا مثقفًا ومحترمًا. اكتفى بأن قال لى بحزن حقيقى «القطاع العام يتم تخريبه لإفساح الطريق للقطاع الخاص وما تراه مقصود»!! وقد ظل ما قاله الرجل محفورًا فى ذاكرتى أتذكره بألم كلما قادتنى قدماى لجولة فى بعض معارض القطاع العام أقوم بها بين حين وآخر كنوع من إشباع الفضول واستدعاء الحنين للماضى ومحاولة فهم الأحوال.. ولا شك أن هذا الإفساد والفساد الذى شاركت فيه البيروقراطية المصرية كان أحد الدوافع للتوسع فى إسناد المشروعات الجديدة للقوات المسلحة التى تتسم الإدارة فيها بالانضباط والمحاسبة والجدية أيضًا.. لكن هذا الدواء كانت له مثل أى دواء آثار جانبية لا بد من تلافيها وضبطها حتى نحصل على الفائدة دون الضرر وحتى نحقق الهدف دون التعرض لآثار جانبية تحرمنا من الاستفادة بالهدف الأصلى للدواء.. وقد لفت نظرى فى احتجاج رجل أعمال شهير على قرار الدولة بالاستثمار فى صناعة المنسوجات أنه يحتج بأن هذا المجال سيطرت عليه دول أخرى مثل الصين وسنغافورة.. وهو بهذا يطرح نفس منطق «الكنتالوب بديلًا عن القمح» حيث سيطرت نفس الفكرة على وزير زراعة شهير فى التسعينيات.. وقال إن مصر تكسب من زراعة «الكنتالوب» والفراولة أكثر مما تكسب لو زرعت القمح والقطن.. لذلك علينا أن نزرع الكنتالوب.. وكانت النتيجة أنه فى حالة الأزمات الكبرى نشترى القمح بأضعاف مضاعفة وبأكثر من أرباحنا من الكنتالوب بكثير.. نفس الأمر بالنسبة للمنطق الذى يطرحه رجل الأعمال وهو منطق مخادع.. فنحن كى نشترى الأنسجة من الصين وبنجلاديش نحتاج للدولار.. والدولار مرتفع السعر.. وعمالنا سيعانون البطالة لأننا سنستورد من الخارج.. لذلك فعلينا توفير العملة الصعبة مع مليارات أخرى لإعانات البطالة.. فى حين أننا لو طورنا شركاتنا وعهدنا بإدارتها لعناصر جادة ومهنية وطبقنا سياسة الثواب والعقاب فإن المنتجات ستلبى احتياجات سوق عملاقة قوامها مئة وخمسة عشر مليون مواطن.. فضلًا عن خمس عشرة دولة إفريقية عضوًا فى اتفاقية الكوميسا تدخل منتجاتنا إليها دون جمارك فضلًا عن قرب مصانعنا من أسواق الخليج وغزة والعراق.. ولعل هذه مناسبة جيدة لأن أقترح على المسئولين استقطاب الخبرات السورية الممتازة فى صناعة النسيج والتى كانت قادرة على منافسة المنتجات التركية فى السعر والجودة إلى الحد الذى دفع تركيا لنقل صناعة النسيج فى مدينة حلب إلى المدن التركية بعد اشتعال الحرب فى سوريا.. ولا شك أن استقطاب هذه الخبرات وإدماجها قى تطوير شركات القطاع العام يمثل مكسبًا كبيرًا لكل الأطراف.. وما أريد أن أقوله إن الحل ليس فى بيع القطاع العام المنتج.. ولكن فى محاربة الفساد والإهمال والتسيب وفى تعظيم قيمة الأصول وفى العمل بالجدية الواجبة تجاه الوطن.. هذا هو الطريق الثالث بين الإهمال من جهة وبين دعاوى البيع من جهة أخرى.. بين الإفراط والتفريط.. وهو طريقنا نحو المستقبل بإذن الله.