الفرح هو المهم
المساحة التى احتلتها كرة القدم فى حياتنا تحتاج إلى تأمل، بعيدًا عن لاعبيها القدامى الذين يتحدثون عنها فى استديوهات التحليل، وبعيدًا عن الزملاء الصحفيين الذين يبحثون عن الخبر والانفراد والحديث فى المعارك الجانبية، نادرًا ما يصادفنا كتاب يتناولها من منظور اجتماعى أو سياسى أو تاريخى، رغم وجود أسماء كبيرة أدبية وفنية تعشق اللعبة وتمتلك كلامًا مختلفًا، ترفض أن «تمد يدها فى الموضوع»، بسبب المناخ الشعبوى الذى يحيط بها.
لا أحد ينسى إدواردو جاليانو أديب أوروجواى العظيم الذى كتب فى «كرة القدم بين الشمس والظل» كتابة تقترب من الشعر والموسيقى، كتابة خبير فى الأدب والتاريخ والاقتصاد والسياسة، يكتب وهو فى مقاعد المتفرجين الفقراء، الذين يريدون استعادة لعبتهم، ميكائيل كوريا الصحفى بجريدة ميديا بارت التى تعد أهم جريدة رقمية مستقلة فى فرنسا، والذى عمل قبل ذلك فى لوموند ديوبلوماتيك، وأسس مجلة شهرية تعنى بالنقد الاجتماعى، كتب مؤخرًا كتابًا جميلًا يحمل اسم «تاريخ شعبى لكرة القدم»، وصدرت طبعته العربية فى معرض الكتاب الفائت بترجمة جميلة جدًا لمحمد عبدالفتاح السباعى، المؤلف يرى أن مداعبة «قطعة الجلد» هى تجربة كونية، أمر عابر للأمم والأجيال، والأجناس أيضًا، إنه وفقًا لتقديرات هيئات رسمية فى عام ٢٠١٤ توجد ٣٠ مليون فتاة وسيدة يمارسن كرة القدم فى العالم، فما بالك بعدد الشباب؟، قوة الجذب فى هذه اللعبة تنبع من بساطتها، حيث إن قواعدها الأساسية موجزة بشكل خاص، ومنذ تقنينها لأول مرة عام ١٨٦٣ لم يطرأ على قوانينها السبعة عشر سوى بعض التغييرات الطفيفة، ممارسة اللعبة لا تتطلب الكثير، يمكن اللعب بكرة بدائية، وفى أى مكان، تلك القواعد البسيطة توفر حرية مذهلة، «ركل الكرة يُعد مصدر سعادة صافية، تكمن ينابيعها الرئيسية فى روح الفريق وتدوير الكرة كعمل جماعى على أرضية الميدان، وكذلك الانخراط الجسدى فى المواجهة، وكذلك البحث عن الجماليات فى اللمحات الجيدة»، وكما كان يردد دائمًا سقراط، وهو لاعب برازيلى مشهور بمواقفه السياسية «الجمال يأتى أولًا، الانتصار ثانيًا، والفرح هو المهم»، فى المقابل نجد أن اللعبة «المعولمة» باتت تجسد أكثر من أى وقت مضى، تجاوزات الرأسمالية العالمية الجامحة، لأن الأندية الكبيرة أصبحت علامات تجارية، نادى برشلونة مثلًا قارنه أحد مديريه بشركة والت ديزنى، قائلًا: «هم لديهم ميكى ماوس ونحن لدينا ليونيل ميسى، لديهم ديزنى لاند؟، حسنًا نحن نملك الكامب نو (ملعب برشلونة)، هم يصنعون أفلامًا ونحن نقدم محتوى، لم نعد نشاهد ما تصنعه الأندية الأخرى لأن مرجعياتنا اليوم أصبحت من عوالم أخرى»، كوريا صدر للكتاب بلافتة رفعها مشجع لفريق الإفريقى التونسى فى مباراة أمام باريس سان جيرمان سنة ٢٠١٧ مكتوبًا فيها «ابتكرها الفقير وسرقها الغنى»، وهو التصدير الذى يشير إلى الروح التى كتب بها الكتاب، المؤلف يرى التوتر شديدًا بين عالمين لكرة القدم، أولهما هو الذى ينحنى لمنطق التاجر السلطوى، أما الثانى فهو العالم الذى يريد التحرر من العالم الأول، وأن يعود بكرة القدم إلى جذورها، اللعبة التى ولدت فى خضم الثورة الصناعية منتصف القرن التاسع عشر، وكان الهدف منها هو تهذيب الشباب البرجوازى وبث روح المنافسة والمبادرة اللازمين للرأسمالية الصناعية والمشاريع الاستعمارية، لكن سرعان ما غزت كرة القدم الطبقات الشعبية، وحرص أرباب العمل البريطانيون، لا سيما من ذوى السلطة الأبوية، على نشرها بعدما رأوا فيها وسيلة تعلم الطبقة العاملة احترام السلطة وتقسيم العمل، فانتشرت الكرة انتشار النار فى الهشيم، وفى الوقت نفسه، كانت الكرة تتحرر تدريجيًا من وصاية أرباب العمل، فبعدما صممها قادة الصناعة للسيطرة على العمال وتحويل نضالهم الاجتماعى إلى وجهة أخرى، ساهمت المستديرة فى ظهور وعى طبقى قوى، وكانت ممارستها أسبوعيًا على أرض المصنع تغرز المتعة وتشكل نوعًا جديدًا من المؤانسة المجتمعية، الكتاب الممتع والذى صدر عن دار المرايا، لا يتبنى تسلسلًا زمنيًا دقيقًا، وخلال اثنين وعشرين فصلًا تدور الحكاية كما تدور الكرة على تلك الأرضية الهائلة من النضال، الكتاب، كما يقول ميكائيل كوريا، هو بحث فى كرة القدم الاحتجاجية المهمشة، وكذلك كرة القدم الاحترافية المؤسسية، إذ إن تتبع التاريخ الشعبى لهذه الرياضة يقضى بتجاوز ثنائية «كرة القدم العشوائية» و«كرة القدم التقليدية»، فمنذ نشأة هذه الرياضة يتنافس الشعب والنخبة، و«الأغنياء» و«الفقراء» و«المسيطرون» و«المسيطر عليهم»، على تلك البالونة المستديرة.