واشنطن تقضى على حلم أوروبا فى الاستقلال
يقول دبلوماسيون وخبراء، إن غزو روسيا لأوكرانيا هو أكبر تحدٍ للأمن الأوروبي منذ نهاية الحرب الباردة، لكن الأوروبيين أضاعوا الفرصة لتعزيز دفاعهم عن أنفسهم، وبدلًا من ذلك، عززت الحرب اعتماد أوروبا العسكري على الولايات المتحدة.. قادت واشنطن الرد على الحرب، وحشدت الحلفاء، وقدمت مساعدات عسكرية لأوكرانيا، وساهمت بأكبر قدر من المعدات العسكرية والاستخبارات لأوكرانيا، وقررت في كل خطوة نوع الأسلحة التي ستحصل عليها كييف وما لن تحصل عليه.. وقد تجلى دورها، الذي أصبح لا غنى عنه، في القرار الأخير بتوفير دبابات «ليوبارد» الألمانية لأوكرانيا، وهي خطوة رفض المستشار الألماني أولاف شولتس اتخاذها، على الرغم من الضغوط القوية من بولندا وبريطانيا، ما لم تقدم الولايات المتحدة بعض دباباتها الحديثة من نوع «أبرامز».. نجحت القيادة الأمريكية للغاية في تحقيق مصلحتها الخاصة، بينما ترك الأوروبيون أنفسهم دون حافز تولي القيادة بمفردهم.. «الواقع هو، أنه لا يوجد زعيم حقيقي في الاتحاد الأوروبي، هذه مشكلة يمكن أن تعود لتطارد الولايات المتحدة»، كما قالت ليانا فيكس، المحللة الألمانية في مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن.
في غضون ذلك، رد الاتحاد الأوروبي على الغزو بعقوبات اقتصادية ضد روسيا، ومساعدات مالية كبيرة وصندوق، يبلغ الآن 3.6 مليار يورو، أو حوالي 3.9 مليار دولار، مساهمات من الدول الأعضاء في الإنفاق العسكري في أوكراني، بعد أن قُدِرت المساهمات العسكرية الإجمالية لأوكرانيا من الدول الأعضاء بنحو 12 مليار يور، بينما تصل المساعدات الإجمالية إلى حوالي خمسين مليار يورو.. وقد كان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يهدف إلى «الاستقلال الاستراتيجي» عن الولايات المتحدة، وأن يصبح الاتحاد الأوروبي قوة عسكرية يمكنها العمل بشكل مستقل عن الولايات المتحدة، أو مكملًا لها، لكن الواقع في أوكرانيا أثبت أنها أنها أهداف جوفاء.. والسبب في ذلك، هو أن الدول الأوروبية تختلف بشدة فيما بينها حول كيفية إنهاء الحرب، وحتى حول علاقتها مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، الآن وفي المستقبل.
من المستحيل أن يكون هناك دفاع أوروبي حقيقي دون سياسة خارجية أوروبية متماسكة، كما اقترح تشارلز كوبشان، المسئول السابق في إدارة أوباما وأستاذ الدراسات الدولية في جامعة جورج تاون، الذي قال إن الحرب الأوكرانية تقطع كلا الاتجاهين، مما يؤدي إلى وحدة جديدة بين الأوروبيين، وأيضًا تؤدي إلى تصدعات جديدة.. «هناك رغبة ضئيلة جدًا في الحكم الذاتي، إذا كان ذلك يعني الابتعاد عن الولايات المتحدة، لأن الحرب أكدت أهمية الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، وهو الضمان الذي قدمته واشنطن للحلفاء الأوروبيين منذ الحرب العالمية الثانية».
لطالما كان الأوروبيون في وسط وشرق أوروبا، إلى جانب دول البلطيق وبريطانيا، لا يثقون في الدفاع الأوروبي المستقل، وعملوا على إبقاء الولايات المتحدة منخرطة في الأمن الأوروبي وفي حلف الناتو.. بالنسبة لهم، تعتبر المظلة النووية الأمريكية لا غنى عنها لردع روسيا، التي اعتبروها تهديدًا أكثر من الحلفاء الآخرين، مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، خصوصًا منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014.. وسواء كانت واشنطن تأسف لذلك أم لا، نظرًا لرغبتها في التحول نحو الصين، إلا أن هذه الحرب تطيل العمر الافتراضي للوجود العسكري الأمريكي في أوروبا لفترة طويلة قادمة.
ويرى أندرس فوج راسموسن، الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، إن ماكرون «قوض فكرته الخاصة عن الحكم الذاتي الأوروبي» من خلال تصريحاته وسلوكه التي تتعلق ببوتين، بحجة أن النظام الأمني الأوروبي الجديد يجب أن يشمل روسيا، وأنه يجب عدم إذلال بوتين.. هذا الوضع خلق قلقًا في أوروبا الشرقية، وجعل من المستحيل إلى حد ما على ماكرون، خلق زخم لدعم فكرته عن الحكم الذاتي الأوروبي.. وطالما أن القوى الكبرى في أوروبا لا يمكنها الاتفاق على نهج مشترك تجاه روسيا، فإن بقية الحشد سينظر عبر المحيط الأطلسي، ويبحث عن ضمانات أمنية من الولايات المتحدة.
كان الحلم الأوروبي دائمًا أن يكون له ركيزتان جماعيتان رئيسيتان، واحدة اقتصادية تمثلها ألمانيا، والأخرى دفاعية، تضطلع بها فرنسا، ولكن حرب أوكرانيا غيرت قواعد اللعبة بشكل كبير بالنسبة للأمن الأوروبي، إذ أدرك الأوروبيون في الوسط والشرق، أنهم بحاجة إلى الولايات المتحدة من أجل أمنهم، وسرعان ما قررت ألمانيا الشيء نفسه.. وعلى الرغم من وعد المستشار الألماني شولتس، بنقطة تحول في السياسة الأمنية الألمانية، إلا أن التفاصيل كانت غير موجودة.. والآن اتضح أن مبلغ المئة مليار يورو المخصص لإعادة بناء الجيش الألماني، الواهن بعد الحرب الباردة، بات من الصعب البدء في إنفاقها، في الوقت الذي فشلت فيه الحكومة في تحريك صناعة الدفاع الألمانية.. تصنع شركة «راينميتال» الألمانية لصناعة الأسلحة دبابة «ليوبارد»، ولديها نحو مائتي دبابة مخزنة، تؤكد أنها تحتاج إلى ما يصل إلى عام لتجديدها، حتى تكون صالحة للحرب في أوكرانيا، لكن بإمكان ألمانيا أن تدفع الشركة لتجهيز الدبابات قبل 12 شهرًا، حتى لجيشها.. وقد حاولت الدول الأوروبية اللحاق بالاستثمارات الدفاعية اللازمة، ولكن بطريقة وطنية ومجزأة، لا تنسقها بروكسل، وهذا يعني حتمًا شراء المعدات الجاهزة، وهو ما يعني في الغالب الأسلحة الأمريكية، وليست الأوروبية.
أزعجت ألمانيا فرنسا من خلال شراء طائرات مقاتلة أمريكية من طرازF-35 ، بدلًا من شراء طائرات أوروبية، أو حتى انتظار مشروع طائرة فرنسية ـ ألمانية ـ إسبانية طال انتظاره، وهو نظام Future Combat Air System، الذي يتنافس مع النظام البريطاني ـ الإيطالي ـ الياباني المقترح.. لكن لا يتوقع أن يكون لأي من المشروعين مقاتلة عاملة حتى عام 2035 أو 2040.. وعلى نحو مماثل، وبسبب قلقها إزاء ضعفها أمام الصواريخ الروسية متوسطة المدى، ذات القدرة النووية في كالينينجراد، صُدِمت برلين باريس باقتراح «مبادرة درع السماء الأوروبية»، وهو نظام دفاع جوي وصاروخي، بالتعاون مع 13 من حلفاء الناتو وفنلندا، ولاحقًا السويد، والتي ستستخدم في المقام الأول التكنولوجيا الأمريكية والإسرائيلية، وليست الأوروبية.
وعلى المدى الطويل، تزيد مثل هذه القرارات من الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة، والرهان الآن على حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة معًا، وعلى المعدات الموجودة بالفعل.. لقد رضخ شولتس لتوفير الدبابات لأوكرانيا بعد اشتراطه تقديم دبابات أمريكية أيضًا، ويبدو أن الأوروبيين، في النهاية، لا يثقون في بعضهم البعض، وبالنسبة لأوروبا الوسطى والشرقية، فإن الثقة والمصداقية قد ولت.. فكل من ألمانيا وفرنسا تعتقدان أن أوروبا الوسطى والشرقية تقلل من خطر التصعيد الروسي، «لذلك يتطلع الجميع إلى واشنطن، باعتبارها الحكم الرئيسي، وليس إلى بعضهم البعض».. ويرى المحللون أن ماكرون وشولتس، اللذين يقال إن علاقاتهما فاترة، فشلا في توفير القيادة اللازمة، بشكل منفصل أو معًا.. لقد فوتت فرنسا فرصة لإظهار ما هو الاستقلال الاستراتيجي أو ما يمكن أن يكون، كما قال بارت زيوتشيك، المسئول السابق في إدارة أوباما، الذي يعمل الآن مع صندوق مارشال الألماني، «تحت سطح الشعارات، لم يكن هناك الكثير من حيث الموارد أو الانتشار أو حتى في القيادة الفكرية».
فيما يتعلق الأمر بتقليل الاعتماد على واردات الطاقة الروسية، فقد تلقى الأوروبيون ضربة اقتصادية كبيرة، وسرعان ما بنوا محطات الغاز الطبيعي المسال، وتجاوزوا القواعد، وفرضوا العقوبات، واتفقوا على سقف لأسعار النفط الروسي، إلا أن الدفاع كان قصة مختلفة، «فقدت أوروبا مصداقيتها».. كان بإمكان فرنسا أن تستغل هذه الحرب كفرصة للاستثمار بشكل كبير في أوكرانيا وأوروبا الوسطى والقول، يمكنكم الاعتماد علينا حقًا.. لكن هذا لم يحدث.. وبدلًا من ذلك، ترددت كل من باريس وبرلين، على أمل حرب قصيرة، «مات الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، والفرنسيون لا يحبون هذا على الإطلاق»، ولكنها الحقيقة التي أصبحت واقعًا، يحتاج سنوات طويلة، وأزمة أوروبية جديدة، ربما دفعت قادة الدول الأوروبية للتفكير الحقيقي في الاستقلال عن واشنطن، لعلهم ينجحون هذه المرة.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.