العودة للحالة الطبيعية
تأمل المشهد فى مصر يقول إننا نعود إلى الحالة الطبيعية.. كانت هناك حالة استثنائية فرضتها الحرب على الإرهاب.. هذه الحالة تتراجع رويدًا رويدًا لتحل محلها الحالة الطبيعية.. هذه الحالة ليست هى ما كان عليه الوضع قبل ٢٠١١ وقبل يونيو ٢٠١٣ لكنها حالة أكثر صحة.. تتعلم من الماضى وتسعى نحو المستقبل وعنوانها العريض هو الحوار تحت مظلة الوطن.. المواجهة مع الإرهاب كانت صعبة وكنا نواجه فيها عدوًا خارجيًا له أذرع داخلية.. وكان الوضع بالغ الخطورة، وقد استوعب المصريون كل هذا ولم يتأثروا بأى دعايات أو أكاذيب وتفهموا كل الإجراءات الاستثنائية فى كل المجالات.. الآن أنعم الله علينا بهزيمة الإرهاب وبنعمة الاستقرار وبدولة متماسكة حتى لو كانت ظروفها الاقتصادية صعبة.. أظن أننا الآن فى مرحلة الحوار من أجل مزيد من البناء وفى مرحلة ترميم الوضع الاقتصادى من أجل النهوض به.. فى حالة الحوار.. نحن ملزمون بالالتفات لكل وجهات النظر التى تطرح بطريقة محترمة وتتسم بالموضوعية بغض النظر عن نية قائلها.. ما دام يلتزم بأدب الحوار ويشاركنا تحت مظلة الوطن.. أمس الأول مثلًا زار رئيس الوزراء مصنع المحلة للغزل والنسيج وهو قلعة عملاقة.. وأعلن عن أن الدولة ستضخ ٥١ مليار جنيه لتعويم المصنع وتسديد ديونه وقيمتها ٢١ مليار جنيه، وضخ ثلاثين مليار جنيه استثمارات جديدة حتى يتحول المصنع من حالة الخسارة إلى حالة الربح.. فى الصباح كان هناك رجل أعمال شهير يغرد قائلًا إن الـ٥١ مليارًا التى ستضخها الحكومة فى تطوير غزل المحلة ستضيع مثلما ضاعت أموال سابقة تم ضخها فى المصنع.. وإن الحل من وجهة نظره هو الخصخصة.. ليس لدىّ ما يدعونى لتصديق رجل الأعمال المحب للإعلام ولا لتكذيبه.. لكن أرى أن ما يقوله يستدعى ردًا عامًا من رئيس الوزراء.. الخلاف بين أنصار القطاع العام وأنصار الخصخصة خلاف شهير.. وربما من أشهر الخلافات فى العالم.. لو أننى سأدافع عن تطوير الشركة والقطاع العام كله فلدىّ الكثير لأقوله.. المصريون عاطفيون جدًا فيما يخص القطاع العام.. لأنه تراكم خبرات كبيرة.. شركة المحلة للغزل والنسيج مثلًا أسسها طلعت حرب باشا عام ١٩٢٧ وتم تأميمها فى ١٩٦١ وقبل أن يؤسسها طلعت حرب كانت هناك مصانع صغيرة أسسها مصريون ضمها طلعت حرب للشركة التى امتلكها أول بنك مصرى.. هذا تاريخ حقيقى وطويل ومشرف.. من ناحية ثانية هناك بُعد اجتماعى.. هذه الشركة يعمل فيها ٢٤ ألف عامل مصرى.. بعضهم مميز جدًا وتعلم على يد «الأسطوات» القدامى.. فهل نضمن أن من سيشتريها سيحافظ على العمالة؟ مجتمع العمل فى المصانع هو أفضل ضمانة ضد نمط المواطن العشوائى أو «السرسجى».. العامل يتسم بالوعى ويذهب للوردية فى موعد وينصرف فى موعد وعلاقته بزملائه تنظمها اللوائح، ويسكن غالبًا فى مساكن تابعة للشركة، وحتى الثمانينيات كانت هناك نوادٍ تابعة للشركات ومصايف وخدمات اجتماعية راقية للعمال.. وبالتالى فإن التصنيع هو طريق تقدم المجتمع وليس أى طريق آخر.. أسهل شىء أن تفصل الدولة آلاف العمال وتحتفظ ببضع عشرات وتحقق الميزانية أرباحًا.. ولكن ماذا عن البُعد الاجتماعى؟ الحل الصعب هو أن تضخ استثمارات لتطوير العمال وتدريبهم على العمل الحديث وتطبيق معايير الجودة.. والحوكمة والإدارة بعقلية القطاع الخاص دون تفريط فى الأصول التى تساوى مئات المليارات إن لم يكن أكثر.. من ناحية أخرى فإن الرأى الفاقد للأمل فى إمكانية تطوير القطاع العام له وجاهته.. وسأروى هنا تجربة شخصية من شخص محب للقطاع العام لأسباب عاطفية.. هذه التجربة تتلخص فى أننى كلما اشتريت قطعة ملابس من إحدى شركات الغزل الحكومية، اكتشفت أنها تجمع بين جودة رائعة للأقمشة لأنها أقطان خام لا يدخلها الأنسجة الصناعية الرخيصة.. لكنها فى نفس الوقت تتسم بإهمال فظيع فى «التقفيل» والمقاسات.. يكشف عن استهتار كبير وعدم وجود معايير مهنية.. وكأن العاملين فى هذه الشركات يفسدون طبخة ممتازة بسبب نقص الملح الذى لا تتعدى قيمته «شلن» كما يقول المثل الشهير.. ومنذ عام ٢٠٠٠ مثلًا وهناك اعتقاد لدى الكثيرين أن شركات القطاع العام كان يتم إفشالها بتعمد لإتاحة الفرصة لشركات القطاع الخاص.. وأنا أظن أن هذا صحيح بسبب التداخل الكبير بين القطاعين العام والخاص.. فمعظم مديرى القطاع العام الناجحين تم توظيفهم فى شركات القطاع الخاص فى نفس المجالات فذهبوا ومعهم خبرتهم ومعهم أيضًا أسرار الشركات التى كانوا يعملون بها.. وبعض هؤلاء المديرين تحولوا هم أنفسهم لرجال أعمال ينافسون شركات القطاع العام التى كانوا يعملون فيها، فى حالة غريبة لتعارض المصالح تصل لحدود الفساد الصريح.. فأى شركة فى العالم تشترط على كبار مديريها ألا يعملوا فى نفس مجال عملها لمدة خمس سنوات على الأقل ضمانًا لعدم استخدامهم أسرار الشركة فى إفادة منافسيها.. ولكن هذا لم يحدث مع شركات القطاع العام.. بل حدث عكسه.. وفى أضابير الرقابة الإدارية، وغيرها الكثير والكثير.. وبالتالى فالأمر يحتاج لحوار.. ولتطمينات للناس.. ولإعلان جهة الإدارة التى ستتولى الإشراف على هذا المبلغ الضخم بالنسبة للوضع الاقتصادى العام حتى لا يُقال للناس إن أموال الشعب الطيب ستضيع.. هذا مجرد نموذج لقضية يفيد فيها الحوار ولا يضر إذا حسنت النوايا.. وارتقت لغة الحوار.. والله أعلى وأعلم.