السعودية.. وذاكرة المثقفين
بين الذاكرة والتاريخ مسافة زمنية ونفسية تفصل بين حالتين، حالة النسيان، وحالة استحضار الذاكرة على هيئة صور ومواقف وأفكار ونصوص من الماضي. والماضي ليس ببعيد، هنا تستحضر الذاكرة ما قرأته عن المملكة العربية السعودية لاثنين من رواد الثقافة المصرية. هما الدكتور طه حسين، والمفكر الأستاذ محمود عباس العقاد. الرجلان من أهم المثقفين المصريين الفاعلين في الثقافة المصرية، كما أنهما من أهم عناصر القوة الناعمة القوية لمصر.
كتب العقاد مقالاً في صحيفة الكتلة في 18 يناير 1946 بعنوان «عن الأسرتين المالكتين». كان العقاد يقصد الأسرة المالكة المصرية والأسرة المالكة السعودية، ويستعرض دور الأسرة المالكة السعودية وتغلغلها في صميم المجتمع السعودي، وعلاقتها بالأسرة المالكة المصرية.
واستعرض المقال الحياة الاجتماعية لأصول العائلة السعودية، ويختم العقاد مقاله بالحديث عن جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود قائلا: «وجلالته قوي الذاكرة في مسائل الأنساب وأصول القبائل والبطون العربية ولا يقتصر علمه بها على أنساب آل سعود ولا على الأصول النجدية فقط، بل يتجاوز ذلك إلى العلم بأنساب كثيرة في أنحاء الجزيرة العربية، والأقوال متفقة على أن الأسرة السعودية فرع من ربيعة، إحدى القبائل العربية الثلاث التي هاجرت من اليمن بعد سيل العرم المشهور وهي مضر وبكر وربيعة، وفي مصر جماعات كثيرة من قبائل البادية تنتمي إلى ربيعة، ويتفق المؤرخون على أنها هاجرت من الجزيرة العربية إلى أسوان وشمال النوبة في القرن الثالث الهجري أو التاسع الميلادي، وهذه الجماعات تكفلت بصد غزو قبائل البجة التي كانت تشنها على أسوان في الصحراء الشرقية. ثم اختلطت بالبجة وتزوجت من سادات أشرافها وورثت السيادة عليها. ويقال إن البشاريين المعروفين في صحراء النوبة يرجع نسبهم إلى إسحق بن بشر أحد أمراء ربيعة الذين قاتلوا أبناء عمومتهم في واحة عيزاب ثم استوطنوها إلى الآن. وكان من جماعة ربيعة رئيس اسمه أبو المكارم هبة الله انتصر على أبي ركوة، داعية الأمويين، فكافأه الحاكم بأمر الله مكافأة حسنة، ولقبه بكنز الدولة فأصبح ذووه يلقبون يسمون أنفسهم بني كنز».
ويستطرد العقاد في مقاله ويقول: «وقد سألني بعض الأدباء عن البادية المصرية، فقلت لهم إنها البادية العربية في عاداتها ولهجاتها بغير تبديل. وسترون بالبادية المصرية في صحراء السويس وتجدونها في نجد والحجاز».
أما طه حسين فقد كتب كثيراً عن النبي محمد وعن تاريخ آل البيت، لم يكتف طه حسين بما كتبه عن النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، بل قرّرَ أن يشد الرحال إليه، ويسجل شهر يناير عام 1955 زيارته إلى الأراضي المقدسة ليؤدي فريضة الحج- وقتها كان رئيساً للجنة الثقافية للجامعة العربية- وهي الرحلة التي استغرقت تسعة عشر يوماً، تم استقباله فيها استقبالَ الملوك.
وكان استقباله هناك استقبالًا مهيبًا، وعرسًا لا مثيل له. فكان في استقباله الملك سعود، والأمراء والأعيان والوجهاء والأدباء والإعلاميون، واحتفت به المؤسسات الثقافية والهيئات العلمية كافة، كما استقبلته هناك بعثةُ الأزهر الشريف، وكان من بينها الشيخ محمد متولي الشعراوي، إذ كان يعمل أستاذًا في كلية الشريعة، والذي لم يقف من طه حسين موقفًا سلبياً، مجاراة لزملائه الأزهريين المعروفة خصومتهم آنذاك لطه حسين، بل على العكس، رحب به ترحيبًا كبيرًا، وحيَّاه، وأعرب طه حسين عن سعادته بهذه الرحلة الإيمانية إلى الحجاز، فقال: «لقد تركتْ زيارتي للحجاز آثارًا قوية رائعة في نفسي، لا يمكن أن تصور في حديث أو أحاديث. وحسبك أنها الموطن الذي أشرق منه نور الإسلام، ونشأت فيه الحضارة العربية الإسلامية. وما أعرف قُطرًا من أقطار الأرض أثَّرَ في عقول الناس وقلوبهم وأذواقهم كما أثَّرتْ هذه البلاد، وكما أثّرَ الحجاز فيها بنوع خاص».
عندما دخل طه حسين إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، أمسك عن الكلام تمامًا، حاول رجال الصحافة أن يُجروا معه حوارات صحفية، أو يحصلوا على تصريحات يسجّلون من خلالها ما يشعر به وهو يؤدى شعائر الحج، لكنه تمسّك بصمته تمامًا، وعندما عاد إلى مصر سألوه عن سر صمته فقال لسائليه: «ما كان لي أن أتكلم في مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، وما كان لي أن أرفع صوتي وقد قال الله تعالى (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)».
الفرق الزمني بين ما كتبه عباس محمود العقاد والدكتور طه حسين عشر سنوات فقط، ترجمت مشاعر المثقفين المصريين نحو المملكة، ولا تخلو صحيفة أي مثقف مصري من أصدقاء سعوديين مارسوا أمانة الكلمة، وأصبحوا مع إخوانهم المصريين وحدة ثقافية واحدة.
وما تشهده المملكة حالياً من نبذ للأفكار المتشددة والميل لسماحة الدين، بلا شك يعتبر عنصر من عناصر الاستقرار في المنطقة، ونبذ للأفكار الإرهابية.