مصر والرقى فى إدارة العلاقات
لم تشكل تصريحات الرئيس السيسى الأخيرة مفاجأة لى لا على المستوى الشخصى ولا على المستوى العام.. الرئيس كان قد صرح بالأمس فى لقائه مع رؤساء البرلمانات العربية أن «استقرار وسلام كل دولة عربية هو استقرار وسلام لمصر».. وأن «سياستنا تتسم بالتوازن تجاه الجميع».. قبلها أرسل الرئيس رسالة واضحة فى افتتاح مصنع «سايلو فودز» صباح الخميس الماضى حذر فيها من خطورة واستسهال التنابز على مواقع التواصل الاجتماعى، واختلاق معارك، وصنع فتن لا تفيد أيًا من الأطراف العربية بل قد تضر بكل الأطراف.. وأكد الرئيس أن سياسة مصر تتسم بالاعتدال والتوازن والانضباط الشديد تجاه الجميع فى الداخل والخارج.وأكد الرئيس نفس المعنى فى تصريح نشرته الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية قال فيه إن «مصر تقدر علاقتها الطيبة مع الأشقاء ولا تقبل الإساءة والانسياق وراء الفتن»..
هذه الرسائل رغم أهميتها ليست مفاجأة بالنسبة لمن يتابع أداء الدولة المصرية فى عهد الرئيس السيسى ولمن يدرس الطبيعة الشخصية للرئيس نفسه.. فهو منذ تولى يؤمن بعدم الانجرار لأى تعبير حاد عن خلافات السياسة.. ولعدم الرد على أى تصريحات تجاه مصر سواء كانت حقيقية أم مفبركة.. وسواء نسبت لأشخاص فى دول قريبة تربطنا بها أواصر الأخوة.. أو لدول توترت علاقتنا بها بعد ثورة الثلاثين من يونيو بسبب سياستها ضد المصالح المصرية وقتها.. بل إننى أذكر أننى حضرت لقاء الرئيس بالإعلاميين المصريين فى نيويورك عام ٢٠١٤ على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.. وكان الرئيس حريصًا أن يخبر الإعلاميين أنه قدم ترضية شخصية لأمير دولة خليجية كانت علاقتنا قد توترت بها.. وكانت الترضية بخصوص إساءات شخصية طالت بعض الشخصيات الكبيرة فى هذه الدولة.. وكان ما قاله الرئيس رسالة لكل الإعلاميين أنه لا يقبل الإساءة الشخصية مهما كان حجم الخلاف.. وقد أثبتت الأيام بُعد نظر الرئيس.. فالخلافات تم حل جزء كبير منها مع الزمن واختلاف الظروف وضرورات السياسة وهو أمر كان سيكون أصعب لو تم فتح الباب للإساءات الشخصية التى هى فى كل الأحوال تخالف أخلاقنا كمصريين وكشرقيين نعرف العيب والأصول.. تكرر نفس الأمر مع دولة مثل تركيا.. فضل الرئيس السيسى أن يتجاهل أى تصريحات تصدر عن مسئول فيها.. وأن يكتفى بالعمل على الأرض لضبط العلاقات وحل الخلافات وفق رؤى استراتيجية واضحة ومحددة.. وهو ما تم بالفعل.. ولعل الأمر نفسه تكرر بحذافيره مع دولة مثل إثيوبيا.. رفض مسئولوها التفاوض مع الجانب المصرى حول توقيتات ملء السد الإثيوبى أو تقديم تطمينات واضحة للجانب المصرى.. ومع ذلك التزمت مصر ضبط النفس وسلكت الطرق الدبلوماسية فضلًا عن العمل على الأرض على كافة المحاور.. وهو عمل له نتائج إيجابية بعضها منظور وبعضها غير منظور.. لكنه فى الأكيد يصب فى مصلحة مصر.. تنتفى المفاجأة من تصريحات الرئيس بضرورة ضبط النفس والترفع عن الصغائر.. فى إطار النظر إلى شخصيته.. كمصرى ملتزم من أبناء الطبقة الوسطى المصرية يؤمن بالأصول فى إدارة الخلافات ويعرف العيب ويتجنبه ويترفع بنفسه عن الخوض فى الصغائر.. ويؤمن بحل الخلافات عن طريق التفاوض والهدوء وضبط النفس.. والحقيقة أن كل هذه الخلفيات مهمة جدًا فى فهم ما أثارته بعض اللجان الإلكترونية حول خلافات بين مصر والمملكة العربية السعودية.. فالخلافات بين الحلفاء واردة والخلافات بين الأشقاء أمر واقع.. ولذلك خلقت موائد المفاوضات وقنوات الاتصال ولقاءات المسئولين.. ولا أحد يلوم مسئولًا مصريًا لو سعى لمصلحة بلده.. ولا أحد يلوم مسئولًا سعوديًا لو سعى لما يرى أنه مصلحة بلده.. ومن أجل هذا خلقت موائد المفاوضات.. أما حقائق التاريخ فهى أن الدولتين رمانتا ميزان المنطقة العربية وأنهما أكبر دولتين عربيتين من حيث عدد السكان وموازين القوى المختلفة.. وأن بينهما تقاربًا كبيرًا بدأ فى أعقاب نكسة يونيو وتحول لتحالف استراتيجى منذ الثمانينيات.. وأنهما شكلا مع سوريا العربية محورًا عربيًا هامًا كان خروج سوريا منه وبالًا عليها وعلى المنطقة كلها.. وأن تحالف مصر والسعودية قائم ومستمر تحميه حقائق التاريخ واستحقاقات الجغرافيا ويؤيده العقل والمصالح المشتركة.. والحقيقة أيضًا أن رسالة الرئيس السيسى للجميع كانت واضحة.. حيث يجب أن نفصل جميعًا بين ما هو «ذاتى» وما هو «موضوعى».. أما ما هو ذاتى فهو مشاعر الغضب أو الفرح أو السخط أو الرضا ضد أمر ما.. وما هو «موضوعى».. هو أن نفصل مشاعرنا عن الموضوع الذى نتناوله وأن ننظر له فى حد ذاته بعيدًا عن رؤيتنا الشخصية أو مشاعرنا الشخصية.. والحقيقة أنه لا يجوز فى أمور التحليل السياسى أن نخلط ما هو ذاتى بما هو موضوعى.. فالكتابة الذاتية لها مسارات أخرى وساحات أخرى غير ساحات التحليل السياسى.. التى يجب أن تتسع لتقديرات المواقف المختلفة والملفات والمعلومات المدققة ولسيناريوهات المستقبل المتعددة.. وبهذا تفيد الكتابة ولا تضر وتبنى ولا تهدم وتضيف ولا تنتقص.. ولعل ما فعله الرئيس السيسى بتصريحاته الخميس الماضى يشكل درسًا هامًا فى إدارة الخلافات والتعبير عن الأفكار وانضباط المشاعر.. وكلها أمور تثبت أننا نسير على الطريق الصحيح لنصل إلى غايتنا بإذن الله.