من يوم ما عرفنا الزلزال
مش فاكر كان يوم إيه.. ولا سنة كام.. كل اللى فاكره إن كلمة زلزال قبل ذلك اليوم بالنسبة لى لم تكن سوى مجموعة حروف فى جملة غير مفيدة ربما مرت فى كتاب الجغرافيا أو فى إحدى نشرات الأخبار الباردة، تلك التى لم تكن تعنينا على الإطلاق نحن شباب تلك الفترة.. ربما كنا نستخدمها أحيانًا من قبيل المبالغة فى عناوين تلك الصحف الصغيرة التى كنا نعمل بها للتعلم وزيادة الدخل.. وغالبًا كنا نستخدم هذه الحروف الميتة كعناوين مثيرة فى صفحات الرياضة كأن نقول زلزال الأهلى يدك قلعة المقاولون العرب.. أو زلزال الدراويش يهز عرش الأهلى.. كلام لا يعنى أكثر من ذلك الهزل.. لم نكن نعرف أن تلك الحروف تعنى جروحًا وجثثًا ومواجع وقلوبًا تنزف تحت الأنقاض.. حتى كلمة الأنقاض ذاتها لم تكن تُشعرنا بأى ألم أو خدوش فى الروح.. حتى تلك الليلة من أكتوبر. *** كنت قد سهرت حتى مطلع الفجر فى روف الأوديون.. وهو مكان كان محببًا لتجمعات الفنانين والشعراء وبعض رجال المال والأعمال والسياسة أيضًا.. موقعه الفريد أعلى سينما أوديون فى وسط البلد كان يدفع الكثيرين من زوار مصر إلى الونس فى سهراته ومن هؤلاء العابرين المحبين لسهرات القاهرة كانت ضيفة ليلتنا القادمة من الشقيقة سوريا.. مطربة جبارة عاشت حياة غريبة وماتت فى ظروف أغرب وهى تغنى على خشبة المسرح.. اسمها ربا الجمال.. جمال صوتها الفريد ولكنتها الشامية الحبيبة سحبت الجميع إلى تلك الطاولة التى كنت أجلس إليها إلى جوار عمنا الراحل الشاعر الكبير سيد حجاب ولطفى لبيب ومحمد كامل وعشرات النجوم الذين كانوا بالقرب منا.. سكرنا من حكايات ربا وأغنياتها.. وغادرنا قرب الفجر بقليل إلى شارع قصر العينى حيث عربة فول تقف على ناصية الشارع المواجه لمسرح السلام.. أكلنا «فول بالسمن البلدى وبصل» حتى انتهينا.. لم نعد نعرف كيف نمشى إلى بيوتنا. *** وقتها كان الصديقان محمد الحمامصى وياسر الزيات يسكنان فى منزل عتيق فى بوابة المتولى.. وكنت أسكن فى منزل قديم متهالك فى حى الطالبية.. مع زملاء البدايات من أهل الصحافة والفن.. لم أشعر بى إلا وقد غرقت فى النوم بمجرد دخولى إلى السرير وظننت أننى أحلم.. حلمت أننى ذاهب إلى بلدتى فى الصعيد فى قطار الدرجة الثالثة بأرففه الخشبية ومقاعده الخشبية أيضًا وشبابيكه المفتوحة دائًما مكسورة الزجاج، تلك التى تصفعك بلا هوادة بالبرد الذى يمزع الأجناب لكن ذلك الزحام الموجع والمعتاد يشعرك بأنك فى فرن عيش.. حلمت بأن القطار يتأرجح والشباب الذين ينامون مكان الشنط على الأرفف يتساقطون فوقنا والقطار يتمرجح على القضبان مع صفارته المزعجة وفجأة انتفضت على صوت الهاتف.. عرفت أنه كابوس فيما صوت الكاتبة الكبيرة سكينة فؤاد ينهرنى.. «اصحى إنت لسه نايم والبلد فيها زلزال». *** لم أفهم ولم أعِ.. كل ما فهمته أننى يجب أن أرتدى ملابسى وأنزل إلى المجلة فورًا حيث عم سمير القفاص المصور كبير السن والمقام ينتظرنى أنا الشاب العشرينى المستهتر.. نصف ساعة قطعتها فى الطريق والناس يجرون هنا وهناك وأنا لا أفهم.. السواق وكل من فى الميكروباص يتحدثون عن عمارات انهارت وأنقاض وجرحى وإسعاف وجثث وأنا لا أفهم.. أنا ابن الزرع والغيطان والنيل ماذا يجبرنى أن أعرف ماذا يعنى الزلزال.. فقط انقبض قلبى عندما سمعت عن عمارات سقطت فى بوابة المتولى والقلعة والدرب الأحمر.. كلمات الركاب ودعواتهم أخذتنى إلى الدعاء معهم وأنا لا أفهم.. أول ما وصلت سألت عن ياسر والحمامصى عرفت أنهما بخير.. لم يسقط المبنى يومها سقط بعدها وبعد أن غادروه... وكان أن سحبنى عم سمير إلى المستشفى.. أطفال وشباب وعواجيز.. نجوا من الزلزال ولكل منهم حكاية.. لكنهم ينزفون.. أطباء مصر وممرضوها وناسها بخير.. أنقذوهم.. هناك آخرون تحت الأنقاض.. بعضهم لا يزال حيًا.. ومنهم أكثم الذى صار قصة فيما بعد.. وهناك من ذهبوا إلى المخيمات.. نعم.. مخيمات.. هى كلمة جديدة لم تعرف حروفها لا عينى ولا لسانى من قبل.. هناك فى السلام خيام جمعت بعض الأسر الناجية لأيام بسيطة حتى يتم توفير شقق تحتويهم لكنها لن تعوضهم عن بيوتهم وذكرياتهم وذويهم الذين ذهبوا بلا رجعة. *** عشرات الصور.. قُل آلاف الصور.. راجعتها فى معمل التحميض مع عم سمير القفاص قبل أن تختار سكينة فؤاد ما يصلح للنشر مع صورة نجوى إبراهيم التى ارتدت زى طيار وذهبت لتسجل مع فرق الإنقاذ.. آلاف الصور لم ننشرها لكنها ظلت فى ذاكرتى.. وكأننى أرفضها كما أرفض كلمتى زلزال وأنقاض.. وقد كان أن توارت ونسينا.. نعم نسينا.. والآن فقط أتذكرهم.. وأراهم فى عشرات الصور الواردة من سوريا الحبيبة ومن إسطمبول.. لا فرق بين مصرى وسورى فى الوجع.. لا فرق بين عربى وتركى فى الجراح.. الآن فقط نعود إلى إنسانيتنا.. نتذكر أن تلك البلاد ذهبت بها نواصى الساسة والمؤامرات إلى حصار لم نكن نصدقه ونعرف ألمه طيلة السنوات التى مضت.. عشرات القرى المرهقة من الحرب والإرهاب والجنون والحصار لم تستطع مقاومة الزلزال.. صرخات الأطفال لم تسمع بها قرى مجاورة مقطوعة الأوصال بسبب ما يسميه البعض نظامًا ومعارضة.. لا أعرف ذلك ولا يعنينى.. أعرف فقط أن الله يمنحنا الفرص واحدة بعد أخرى لنفيق لكننا لا نفعل.. ربما تمر أيام قليلة وننسى.. وربما تلك الروايات عن زلازل أخرى فى نفس المنطقة أو بالقرب منها كما يتحدث عرافون.. وعلماء عرب وغربيون.. قد تحدث فتجعلنا مشدودين نتابع ونترحم ونتوجع.. وربما لا يحدث فننسى... وآفة كل حاراتنا النسيان.. وربما يخيب ظنى.. وننتهز الفرصة لنصبح بشرًا من جديد.. ربما.