«لم يصبه العرش».. موسوعة عن «ولاة عهد» لم يحكموا فى الأسرة العلوية
أسرار الغيرة بين أبناء محمد على.. ودور «الوالدة باشا» فى ولاية الخديو
انتهيت من قراءة كتاب «لم يصبه العرش» للكاتب الباحث والموثق التاريخى أستاذ «محمد غنيمة»، فى طبعته الأولى، الصادرة عن دار الرواق بعدد صفحات ٢١٦ صفحة.
سبق أن قرأت لـ«محمد غنيمة» كتاب «ذاكرة النخبة»، فكان اختيارى لكتابه الجديد بناءً على ثقتى فى قلمه وموضوعاته ومصادره.
فى البدء كان غلاف الكتاب، الغالب عليه اللون الأخضر الدال على علم وشعار الملكية المصرية فى عهد الأسرة العلوية، كما تصدرت الغلاف صورة الأمير «محمد على توفيق»، أو كما أسميه أنا «عبده مشتاق»، ولى العهد الذى حلم بكرسى العرش عمره كله دون جدوى. ومع اسم الكتاب «لم يصبه العرش»- على وزن لم يصبه الحظ- ظننت فى بادئ الأمر أن الكتاب يدور حول الأمير «محمد على توفيق» وحده نظرًا لأن الجملة مفردة، لكن الكتاب كان عبارة عن موسوعة لكل ولاة العهد فى الأسرة العلوية الذين لم ينالوا العرش لظروف مختلفة، كل آل «العبده مشتاق» فى الأسرة الحاكمة.
قسّم الكاتب كتابه إلى خمسة فصول. الفصل الأول عن ما قبل اتفاقية ١٨٤٠م، أى أيام حكم الباشا الكبير «محمد على». ومن وجهة نظرى ذلك الفصل من أكثر فصول الكتاب إمتاعًا وتشويقًا، مع العلم أن الكتاب كله شائق. فى هذا الفصل يتحدث الكاتب عن اثنين من أبناء محمد على باشا المقربين، أولهما كان الأمير «أحمد طوسون» الأثير لقلب والده، رغم أنه ثانى أبنائه من بعد «إبراهيم باشا»، حتى إن الكاتب ألمح إلى غيرة «إبراهيم باشا» من أخيه «أحمد طوسون»، من خلال رأيه فى أخيه «طوسون» بعد مماته المكتوبة فى مذكرات «نوبار باشا».
عبقرية هذا الفصل جاءت من خلال كتابة الكاتب مشهد مذبحة القلعة ١٨١١م بالتفصيل، وكأنه مشهد سينمائى حقيقى أمامك، حتى إنه لم يغفل ذكر المشاعر المتباينة لكل الشخصيات الموجودة فى تلك اللحظة، من ذعر وهلع المماليك، لخوف وارتباك «محمد على باشا»، لصدمة وذهول الأمير «أحمد طوسون» صاحب الحفلة المقامة على شرف خروجه بالجيش إلى أراضى الحجاز، والذى لم يكن يعرف أى شىء عن ترتيبات والده حتى سمع طلقات الرصاص ورأى الدماء السائلة أمامه فى ميدان الرميلة خارج باب العزب بالقلعة، حتى صدمة وغضب «أمينة هانم» زوجة «محمد على» الأولى والأثيرة، وقرارها بمقاطعة زوجها «محمد على» نهائيًا من بعد المذبحة. ولم يغفل الكاتب ذكر تبعات ما بعد المذبحة من هجوم عساكر الباشا على كل بيوت المماليك وقطع دابر أسرهم وسبى واغتصاب نسائهم، حتى العامة من الناس القاطنين حول القلعة لم يسلموا من نوبة جنونهم وبطشهم، لولا الأمير «أحمد طوسون» الذى استغاث بأبيه الباشا فنزلا معًا وأوقفا جنون العساكر مع العامة.
من بعدها ذكر الكاتب خروج الأمير «أحمد طوسون» بالجيش إلى الحجاز للقضاء على الثورة الوهابية هناك، كنوع من أنواع المجاملة للسلطان العثمانى. ومرات نجاحه وانكساره، وسياسته الواضحة فى المهادنة، واللين فى التعامل، مما أكسبه تحالفات عديدة من قبائل شبه الجزيرة العربية فساعدته على النصر. وبعد نصره وعودته إلى مصر، وتعيين والده الباشا له كقائد لفرقة رشيد، تأتيه المنية ويتوفى فى العشرين من عمره بشكل فجائى نتيجة مرض الطاعون. وكان أبرز مثال على شدة حب «محمد على باشا» لابنه «أحمد طوسون» هو انهيار الباشا المعظم القوى المستبد، فى جنازة ابنه وإهالته التراب على رأسه وسقوطه مغشيًا عليه. كل تلك الأحداث المؤثرة زاد تأثيرها طريقة كتابة وسرد الكاتب بطريقة أدبية وصفية متميزة.
ثم انتقل الكاتب إلى الابن الثالث لـ«محمد على باشا»، «إسماعيل كامل باشا»، الذى كان صورة عكسية لأخيه «أحمد طوسون باشا»، فقد أوكل له والده فتوحات السودان، فكان غليظًا فظًا عنيفًا متعاليًا، كما أنه ليس بذكاء ومهارة أخويه «طوسون وإبراهيم»، فأوغر صدر الناس عليه، فكان القضاء عليه بالحرق تعبيرًا عن كرههم ورفضهم له.
الفصل الثانى من الكتاب عن ما بعد اتفاقية ١٨٤٠م، وكانت البداية مع «إبراهيم إلهامى باشا»، الذى كان مرتبًا له تولى العرش من بعد مقتل أبيه «عباس حلمى الأول»، وذلك مخالفة لفرمان السلطان العثمانى بتولى أكبر ذكور الأسرة العلوية سنًا، ولكن الحظ لم يكن مهيأ له وسارع عم والده «سعيد باشا» وأبطل تلك المؤامرة، وأخذ حقه فى العرش، وأصبح «إبراهيم إلهامى» ممن لم يصبهم العرش. ومن بعده «أحمد رفعت باشا»، صاحب الحق فى العرش من بعد «سعيد باشا»، لكن الموت فى حادث قطار حال بينه وبين العرش، ليتولاه شقيقه «إسماعيل باشا» رغم أصابع الاتهام المشيرة له فى حادث شقيقه، حتى الآن وتلك الظنون غير مؤكدة. فى هذا الفصل عرض الكاتب قصة الكابوس الذى كان يراود «أحمد رفعت باشا» قبل مقتله، وخوفه وإحساسه بقرب الموت، على حسب ما ذكره خادمه المقرب، بطريقة أدبية قصصية جاذبة جدًا للقراءة والاندماج فى القصة.
الفصل الثالث عن عهد الخديو، والخديوية هو لقب أول من أطلق عليه كان «الخديو إسماعيل» الذى استطاع أخذ فرمان جديد من السلطان العثمانى بتغيير ولاية العهد لأكبر أبناء كل من يتولى العرش، وليس لأكبر ذكور الأسرة العلوية فى العموم. وعلى هذا الأساس، فوّت الفرصة على الأمير «حليم» أصغر أبناء «محمد على باشا» فى العرش.
كما ذكر الكاتب «صراع الخديو إسماعيل» مع عمه الأمير «حليم»، وأخيه الأمير «مصطفى فاضل» الطامعين فى العرش، ودور أمه الوالدة باشا «خوشيار هانم» عن طريق علاقاتها مع بلاط الباب العالى فى الحفاظ على عرش ابنها. ثم صراعه مع ابنه «الخديو توفيق» الذى أخذ العرش بعدما عزله الإنجليز من الحكم، فحب العرش جعله يتمنى القضاء على ابنه الذى غير قانون ولاية العرش لأجله. وهنا يعرض الكاتب بشكل مختصر الكثير من المعلومات حول علاقة كل من: الأمير «حليم» و«الخديو إسماعيل» بـ«أحمد عرابى» والثورة العرابية، وخصوصًا الأمير «حليم»، والتى كانت الأمل الأخير له فى الصعود على العرش، وأيضًا لم يصبه العرش.
الفصل الرابع عن الأيام تحت الحماية البريطانية، ما بعد الاحتلال الإنجليزى لمصر. وكانت البداية مع الأمير «كمال الدين حسين»، ابن السلطان «حسين كامل»، الوحيد الذى لم يصبه العرش بإرادته. وعلى عكس الآخرين كان العرش يجرى وراءه وهو يرفضه، وتنازل عنه رسميًا بلا إبداء أى أسباب، واختار سلامه النفسى، ورحلاته الكشفية والجغرافية فى صحراء مصر. وآخر من لم يصبهم العرش هو «عبده مشتاق» الأمير «محمد على توفيق»، صاحب قصر المنيل الرائع، وقاعة العرش العظيمة التى أصبحت الآن مزارًا سياحيًا مذهلًا، والذى تولى ولاية العرش مرتين، مرة مع أخيه «عباس حلمى الثانى»، ومرة كان وليًا للعهد ووصيًا على عرش «الملك فاروق»، وفى المرتين لم يصبه العرش، على الرغم من محاولاته المستمرة، والمستديمة، وأحلامه، وتنازلاته فى مبادئه مع الإنجليز حتى ينال العرش، كل ذلك ذهب هباءً.
الفصل الخامس والأخير عن من أصابهم العرش. وفيه يعرض الكاتب بشكل سريع لكل حكام الأسرة العلوية، بشكل أشبه ببطاقة تعريفية مما توضع على فاترينات العرض فى المتاحف. نقاط سريعة ومقتضبة عن كل باشا أو ملك أو خديو أو سلطان، على عكس باقى الفصول التى أسهب فيها بطريقة الحكايات.
اللافت للنظر هو إدماج الكاتب كثيرًا من الرسائل الهامة أو النصوص والفرمانات فى قلب الكتاب عند ذكر أحداث مرتبطة بهم، بشكل يؤكد مصداقية المعلومات والأحداث، كما عرض مصدر كل معلومة، ومزيدًا من الشرح خارج النطاق الأدبى فى هوامش سفلية، لكى يساعد القارئ فى البحث الفورى فى أصل المعلومات، بشكل أعجبنى كثيرًا. إلى جانب وضعه جزءًا للملاحق فى آخر الكتاب بها كل نصوص الفرمانات والمعاهدات التى ذكرها الكتاب.
كتاب «لم يصبه العرش» وجبة دسمة وخفيفة فى نفس الوقت. دسمة بالمعلومات، وخفيفة بطريقة السرد المحببة، ليصل بهذا الكم من المعلومات العامة لعقل القارئ ولا تتزحزح منه.