النقشبندى.. سيرة «إمام المنشدين» فى رواية
الكاتبة خرجت عن المألوف فى السيرة.. واستخدمت شخصية أخرى غير «البطل»
إذا تطرقنا للحديث عن الإنشاد الدينى الذى يختص بتعظيم وتبجيل ومدح خاتم المرسلين الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، أو الابتهالات الدينية تقربًا وتضرعًا إلى الله عز وجل، فلا بد أن يذكر اسم أحد أفضل المنشدين والمبتهلين فى العصر الحديث، الذى لقبه البعض بـ«إمام المنشدين» و«صاحب الصوت الملائكى»، سيد محمد النقشبندى.
«النقشبندى» الذى يعد علامة من علامات الإذاعة والتليفزيون فى شهر رمضان الكريم، بل علامة فارقة فى كل تاريخ الإذاعة والتليفزيون، وهو يملك ١٢٠ ساعة كاملة مسجلة باسمه من الأناشيد الدينية التى تعد من تراث الإذاعة والتليفزيون، وفوق الـ٤٠ ابتهالًا، منها الابتهال الأشهر والأفضل «مولاى».
هذا هو ميراث سيد النقشبندى، الذى جعله حيًا بعد موته ودفنه، فرغم اقتراب ذكرى رحيله من نصف قرن، لكنه دائمًا موجود قبل الأذان، خاصة فى شهر رمضان، وبسبب وجوده الدائم معنا، كان لا بد من تناول سيرته بشىء من التفصيل، لتعريف الناس بـ«صاحب الصوت الملائكى»، و«كروان شهر رمضان».
فى عام ٢٠٢١ فازت الكاتبة والصحفية رحمة ضياء بجائزة «خيرى شلبى للعمل الروائى الأول»، عن روايتها «النقشبندى»، التى نشرت مع مطلع عام ٢٠٢٢، وتحاول فيها تخيل سيرة كاملة لـ«سيد النقشبندى»، عن طريق الأحداث المهمة الحقيقية فى حياته، مع بناء الكاتبة عليها بخيالها الخاص.
خرجت الكاتبة عن المألوف فى السيرة، فاستخدمت شخصية أخرى غير شخصية «النقشبندى»، لترتكز عليها بداية الأحداث، بل لتشارك «النقشبندى» نفسه واجهة المشهد والبطولة.
«نصرة»، تلك المرأة التى كانت شابة صغيرة، وفجأة وجدت نفسها امرأة فى بداية الأربعينات، تعانى من أزمة منتصف العمر، ومن الحيرة وفقدان الشغف، تحاسب نفسها على عمر ولى وراح دون شىء يذكر، دون أحلام محققة، دون حب حقيقى، سواء من زوجها الذى ظنت وأوهمها أنه يعشقها، لكنها كانت فترة فقط، وبعد الزواج لم يعد نفس الشخص، أو معاناتها من حاجز وجدار بينها وبين أولادها، العقدة الأزلية بين الأجيال، حتى والداها لم يعطياها الحب المطلوب ولا التربية السليمة التى أرادتها يومًا.
لذا تركت هوايتها وأحلامها وانخرطت فى دوامة الحياة، ووصلت إلى حالة من الكآبة وعدم رغبة فى الحياة كلها. وكعادة الإنسان عندما تُغلق كل الأبواب فى وجهه، يعود للطرق على أبواب قديمة عفا عليها الزمن، فعادت للكتابة وقررت أن تكتب عن بطل الرواية الأصلى، سيد محمد النقشبندى.
ولأول مرة تسمع كلام قلبها وتفعل الجنون- فى عرف زوجها- وتهيم إلى طنطا، لتبحث عن أثر الشيخ سيد. وفى خضم هذا يلعب القدر لعبته ويقول كلمته ويبعثر أوراق «نصرة»، فتجد نفسها فى عالم الأموات أو حياة «البرزخ»، لا تعلم هل ماتت فعلًا أم على شفى الموت المحقق.
هنا يظهر بطل الرواية سيد محمد النقشبندى وتبدأ رحلة روايتنا، وبطلتها «نصرة» مع المنشد الفذ سيد محمد النقشبندى. لم تعد مشكلة إيجاد أثر «النقشبندى» معضلة، فالشخص الذى رحل منذ عقود يقف أمامها بشحمه ولحمه، يجيب عن كل أسئلة الكاتبة، لتتحول الرواية رأسًا على عقب إلى مغامرة لكلا الشخصين، وكأنهما يتعرفان على عالمين مختلفين.
هنا ظهر جليًا تطور أسلوب السرد الذى انقسم لجزءين، جزء متكلم يخص «نصرة»، وجزء راوٍ عليم يخص «الشيخ سيد»، وكأن «نصرة» هى مَن تحكى فى روايتها، فأصبحت رواية داخل رواية.
تسأل «نصرة» أسئلة محددة، تكشف لنا جوانب مغايرة لحياة «الشيخ سيد»، سواء اجتماعية أو نفسية أو معيشية، بل ثقافية وفكرية.
نرجع بالزمن إلى الوراء، إلى طفولة «النقشبندى» وعلاقته بأبيه وأمه، وكيف شكلت هذه العلاقة جزءًا من شخصيته، وجعلته يحقد على أعز الناس فى حياته لفترة من الزمن ولسنوات عديدة، ونرى كيف كان من عذوبة صوت «النقشبندى» أنه كان من الممكن أن يتجه للمغنى، لولا أن وجهه والده لطريق آبائه وأجداده.
نذهب بعدها لطريق «الشيخ سيد» مع حبيبته «صديقة»، التى حنت عليه واحتضنته بعد وقت عصيب، ووقفت بجانبه حتى ذاع صيته، ويبدأ فى كونه المقرئ والمنشد سيد النقشبندى، ولكن ليس الذى عرفناه، بل «الشيخ سيد» ابن طهطا.
نسير فى الرحلة إلى حياة «الشيخ سيد» العائلية والاجتماعية، وعلاقته بـ«صديقة» بعد أن أصبحت زوجته، وبعد أن أصبح «الأب سيد»، وكيف كان يتحاشى التشبه بأبيه ولا يشابهه فى أى تفصيلة.
«الجذبة» هل هى موجودة حقًا؟ «الجذبة» التى نادت على «الشيخ سيد» لتجعله يحط رحاله هو وأسرته، من طهطا إلى طنطا بجوار السيد البدوى، وربما كانت هذه نقطة تحول حياة «النقشبندى» وفاتحة الخير عليه وعلى كل من تمتع بصوته.
تستمر الرحلة بين «الشيخ سيد» و«نصرة»، رحلة بحث «نصرة» عن ذاتها فى دفاتر الشيخ سيد النقشبندى، لربما تجد نصرة الإجابة فى سيرة «النقشبندى».
فى صفحات الرواية نتعرف على علاقة «الشيخ سيد» بأشياء كثيرة، سواء علاقته بالمنشدين والمقرئين القدامى، أو الذين كان يحبهم ويريد أن يكون مثلهم، مثل الشيخ محمد رفعت، والشيح على محمود، أو علاقته بالمطربين مثل أم كلثوم التى كان يعشقها، وعلاقته بالرئيس الراحل أنور السادات، الذى كان أحد لقاءاته به سبب ولادة تعاونه التاريخى مع الملحن بليغ حمدى، فى رائعة «مولاى إنى ببابك».
هذا اللحن العظيم، الذى مات «النقشبندى» و«بليغ»، وظل هو لحنًا خالدًا فى تاريخ الإنشاد الدينى، بل فى تاريخ جميع ما لحنه «بليغ» من ألحان، وقد يتفوق على معظمها. ذلك الابتهال الذى بعد عقود من إذاعته يظل موجودًا، بل يظل فى القرن الواحد والعشرين «رنة» الهواتف المحمولة لملايين من الناس، وهو أمر يثبت أن بليغ حمدى كان من أهم أسباب بقاء «النقشبندى» حيًا حتى بعد موته.
وقد استمر التعاون بين «بليغ» و«الشيخ سيد» بعد ذلك، لكن ظل «مولاى إنى ببابك» هو الأيقونة الأبرز بينهما، وبشهادة سيد النقشبندى نفسه، الذى قال: «لو لم أسجل (مولاى) وباقى الابتهالات التى لحنها بليغ، لما بقيت لى ذكرى بعد رحيلى»، وصدق «الشيخ سيد» فى ذلك.
مما تطرقت إليه الكاتبة أيضًا، علاقة «الشيخ سيد» بالإذاعة، وكيف طرق بابها مرات ورفضته ولفظته مرات ومرات، وكيف كان يزعجه عدم اعتماده كمقرئ، وعدم إذاعة التسجيلات الخاصة به وهو يقرأ القرآن، قبل أن يصبح من العلامات التاريخية للإذاعة فيما بعد.
تعرج الكاتبة كذلك إلى زواج «الشيخ سيد» مرة ثانية، وإنجابه من جديد، لكنه فى هذه المرحلة إنسان فاتر دون لون أو روح، وكأنه شابه أباه بعد كل هذه السنوات.
نسير معًا فى الخطين لنرى نهايتهما، بعد أن عرف كل منهما قصة الآخر تفصيلًا، وسارا معًا من عالمين وزمانين ومكانين مختلفين، لكن وكأن الأرواح تتلاقى ولقاءها بميعاد محتوم، تنتهى رحلتنا ومغامرتنا مع «نصرة» و«النقشبندى»، بمعرفتنا بنهاية «الشيخ سيد» المحتومة، التى حدثت فعلًا فى الواقع، وأثبتت كونه رجلًا تقيًا، وكما المثل القائل: «لم يكن ما فى جيبه له، بل لغيره من السائلين والفقراء».
بينما رحلة «نصرة» لم تنته حتى بعد نهاية الرواية، فبقى لديها اختبارها الأصعب، الذى هربت منه عمرًا، وهو الاختيار والمواجهة بين النور المحتوم والحب الذى لا ينفد، وبين دنيا وبداية غير مضمونة، فتترك لنا الكاتبة أن نختار من نكون، أن نختار طريقنا ونواجه، حتى لو كان على حساب خسارة أى شىء، لكن أهم شىء هو أن نفوز بأنفسنا قبل أى أحد.
فى النهاية قدمت الكاتبة الشابة نصًا محكمًا متميزًا، استحق الفوز بجائزة تحمل اسم أديب كبير هو خيرى شلبى، عن شخصية لم يتم تناولها بشكل واسع، وبلغة قوية وسرد ممتاز، ومزج بين الراوى العليم والمتكلم، وبين الإسهاب فى الوصف تارة، والاقتضاب تارة أخرى، فأضحى عملًا مميزًا حظى بردود أفعال مميزة من القراء و النقاد.
الشيخ سيد محمد النقشبندى هو حالة فريدة، كروان صاحب صوت ملائكى، تميز فى مدح الرسول والابتهال لله عز وجل، واحترم الموسيقى والفن والسينما، ليبين عدم تعارض الدين السمح مع الفن الراقى الهادف، وحفر اسمه بحروف من ذهب فى تاريخ مصر، كأشهر منشد دينى فى تاريخها المعاصر والحديث. ويكفى أن أقول إننا الآن وفى عام ٢٠٢٣ بعد الميلاد، وبعد مرور ٤٧ عامًا على رحيله، ما زالت الناس تعرف ميعاد الأذان عندما تسمع صوت الشيخ سيد النقشبندى، سواء فى الإذاعة أو التليفزيون، دون أن ترى صورته حتى، وسواء فى رمضان أو غيره.