لماذا ينتحر الأدباء؟
انتهيت من قراءة مجموعة «البومة العمياء» للكاتب الإيرانى صادق هدايت، رائد ومؤسس القصة القصيرة فى الأدب الإيرانى الحديث الذى أنهى حياته بالانتحار بالغاز فى أبريل ١٩٥١ عن ثمانية وأربعين عامًا، وأحرق قبل انتحاره العديد من أعماله غير المنشورة.
جرفنى التأمل فى دوافع انتحار كاتب لامع فى عز سنوات الإبداع.. أهى الحالة النفسية الذاتية، أم الظروف التاريخية، أم تحالف العاملين على الإنسان؟. فى قصته «البومة العمياء» ترد على لسان الراوى كل الإشارات الدالة على سيطرة فكرة الموت على الأديب حتى أنه يقول: «الموت فقط هو الذى لا يكذب»، وفى موضع آخر: «الخوف من الموت لم يترك تلابيبى قط»، ويلح عليه السؤال: «أين أنت أيها الموت؟ أين أنت؟»، ويقول: «الجميع يخشون الموت ولكنى أخشى من حياتى»، وفى قصة أخرى له بعنوان «من مذكرات رجل مجنون» يجنح إلى اعتبار الموت غريزة فطرية لدى بعض البشر فيقول: «إن الانتحار موجود عند البعض، فى أصلهم وفى طبعهم، ولا يستطيعون الهرب من براثنه». وبقدر ما تصف تلك العبارات حالة الراوى فى العمل الفنى فإنها أيضًا وبالقدر نفسه تصف حالة الكاتب. لكن الاكتئاب وفقدان الإيمان بكل شىء لا يصلح وحده تفسيرًا للانتحار، فقد عاش صادق هدايت انكسار آمال الشعب الإيرانى فى الحرية، مرة تلو أخرى، واختبر فى شبابه ديكتاتورية حكم رضا بهلوى الذى أطاح بأبسط الحقوق الديمقراطية، وتجرع فى نضجه مرارة حكم محمد رضا بهلوى الذى سار على خطى والده الديكتاتور حتى وقوع الثورة الإيرانية ١٩٧٩، وكثيرًا ما ظهرت مرارة المعاناة من البطش فى إبداع الكاتب. أيضًا دفعت الظروف التاريخية أديبًا عملاقًا هو ستيفان زفايج للانتحار فى فبراير ١٩٤٢ وهو فى الحادية والستين، عندما دخل إلى حجرة نومه ومعه زوجته «لوت آلتمان» وابتلعا فى لحظة عشرات الأقراص المنومة وغابا فى عناق أبدى. ستيفان زفايج العظيم الذى قال إنه «يهودى بالمصادفة»، وقد تغلبت على الكاتب العظيم مخاوفه من زحف هتلر على أوروبا ففضل الانتحار بعد أن أصابه اليأس من الحلم بأوروبا متحررة ديمقراطية.
ويبدو أن اليأس من الآمال التى تتكسر، فى ظل الديكتاتورية، يغذى ويطعم وحش الانتحار إلى أن يبتلع الأديب. لكن فرجينيا وولف لم تحيا تحت وطأة ظروف اجتماعية معينة تسوقها إلى أن تكتب لزوجها رسالة أخيرة تقول له فيها: «لقد عدتُ إلى الجنون مرة أخرى. ولا أظن أن بإمكاننا النجاة مجددًا.. أنا لن أتعافى هذه المرة. أصبحت أسمع أصواتًا كثيرة داخل رأسى، ولم أعد قادرة على التركيز. لذلك سأفعل الأفضل لكلينا»، وفى مارس ١٩٤١ تملأ فرجينيا جيوبها بالحجارة وتتجه إلى البحر لتغرق نفسها فيه. ربما تكون الوحدة؟ ربما الاكتئاب المرضى الذى ساق همنجواى لإطلاق رصاصة على رأسه فى يوليو ١٩٦١، خاصة أن لأسرة همنجواى تاريخًا طويلًا مع الانتحار، فقد انتحر والده وأختاه وحفيدته لاحقًا. وربما يكون الدافع الى الانتحار افتقاد الحب؟ الطمأنينة؟ وعندما انتحر الرسام العظيم فان جوخ عن سبعة وثلاثين عامًا كتب فرويد عبارته الشهيرة: «لو أنه وجد امرأة تحبه لعاش طويلًا». وإذن ألا يحق لنا أن نقول ربما يكون الحب وحده هو الذى لا يكذب؟.
فى ظنى أن معظم الذين أقدموا على إنهاء حياتهم كانوا فى أمس الحاجة إلى الحب، الحب الذى لا يعوضه مجد ولا شهرة، فلم تكن مارلين مونرو بحاجة إلى أى شىء، ولم تكن سعاد حسنى بحاجة إلى شهرة أو مال، ربما كانتا فقط بحاجة ماسة إلى الحب والطمأنينة. مجموعة صادق هدايت «البومة العمياء» و«قصص أخرى» ترجمة د. إبراهيم الدسوقى شتا، صفحة جميلة من الأدب الإيرانى، إبداع كاتب وجد الجرأة على الرحيل من وطأة شعوره بالغربة.