على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب
بلا شك فإن انطلاق الدورة الرابعة والخمسين لمعرض الكتاب بالأمس هى مناسبة وطنية هامة تدعم قوة مصر الثقافية والمعنوية وتضاف لرصيد القوة الناعمة المصرية التى تمتاز مصر بها عن غيرها مستندة لتاريخ طويل من الإبداع والإنجاز الثقافى المتعدد والعميق والمتنوع أيضًا.. ولعل الوعى بقيمة المعرض كمناسبة مصرية يسمح لنا بالنقاش الحر الهادف إلى تعظيم قيمة هذا الحدث الهام وتعظيم الاستفادة منه على المستويين الداخلى والخارجى أيضًا.. ولعل أول ملاحظة تتعلق بالشكل دون المضمون، وأظن أن المسئولية فيها تقع على مراسم مجلس الوزراء.. وهى تتعلق بعدم وجود كتّاب أو مثقفين أو حتى ناشرين فى مشهد افتتاح المعرض والذى قام به مشكورًا الدكتور مصطفى مدبولى، رئيس الوزراء.. وبحسب ما شاهدت فقد قام رئيس الوزراء بافتتاح المعرض يحيط به كل من السيد وزير الأوقاف والسيدة وزيرة البيئة والسيدة وزيرة الثقافة بالطبع دون وجود واضح أو مشاركة من أى من مبدعى مصر أو كتّابها، سواء من الحاصلين على جوائز الدولة الرسمية كالنيل والتقديرية مثلًا أو من الحاصلين على الجوائز العربية والدولية أو من مشاهير الكتاب الذين يقرأ لهم الجمهور ويذهب للمعرض خصيصًا لشراء كتبهم أو الاستماع لهم.. والحقيقة أن الأمر بدا وكأن رئيس الوزراء يفتتح مؤتمرًا للصناعة دون وجود رجال الصناعة.. أو للبورصة دون وجود رجال المال أو للطب دون وجود الأطباء.. ولعله من الواضح أننى أتكلم عن المثقفين الوطنيين الذين طالما خاضوا معارك المجتمع ضد الإرهاب والتخلف والتبعية والاستقواء بالخارج لا عن أى طراز آخر.. إننى أظن أن وجود كبار مثقفينا فى المشهد كان سيدعم بشدة فكرة الحوار الوطنى الذى دعا له الرئيس فى شهر أبريل الماضى وانخرط الجميع فى الإعداد له والنقاش حوله بمن فيهم المثقفون الذين دعوا لمناقشة قضاياهم فى محور خاص بالثقافة.. ولعله كان من الأولى أن يُدعى لحضور معرض الكتاب الذين يساهمون فى صنعه ويباع إنتاجهم فيه.. وحتى أُقرب المعنى أكثر أقول.. لقد لفت نظرى مثلًا أن مخرجًا مثقفًا مثل خيرى بشارة أصدر أول رواية فى حياته هذا العام.. وعلى مستوى الشهرة والإنجاز فإن هذا كان يستدعى توجيه الدعوة له فى الافتتاح أو فى الفعاليات، لأن هذا المخرج عينه هو الذى يدعوه غيرنا فى مهرجانات السينما وفعاليات الثقافة ويبذلون له الغالى والنفيس حتى يسافر إليهم.. فى حين أننا لو دعوناه لندوة فى معرض بلده للبى الدعوة مهرولًا، حيث لا يعدل المبدع بتكريمه فى بلده شىء.
شىء من الخلط أيضًا صاحب البرنامج الثقافى للمعرض تم فيه الخلط بين «الإعلام» و «الثقافة» وهما شيئان مختلفان رغم أن بينهما علاقة أكيدة.. فكل إعلامى ليس مثقفًا وكل مثقف ليس شرطًا أن يكون من رجال الإعلام وإن كان كلاهما يساهم فى بناء المجتمع وبناء الوعى بالمعنى الواسع للكلمة.. والثقافة تشبه عملية الحفر فى الجذور ورمى الأساس العميق فى حين يشبه الإعلام عملية بناء الحوائط ودهان الواجهات.. والحقيقة أن هذا الخلط ممتد منذ عدة سنوات قريبة وما زال مستمرًا.. فقد لفت نظرى أن المعرض يخصص عددًا من فعالياته لصناع المحتوى من اليوتيوبرز ونشطاء الفيسبوك وكأنه يريد أن «يركب التريند» من خلالهم.. والحقيقة أن هؤلاء يقدمون نوعًا من الإعلام غير الرسمى وأن مكان استضافتهم هو المجلس الأعلى للإعلام.. أما معرض الكتاب فدوره أن يستضيف الكتّاب والشعراء والروائيين من مختلف الأجيال ولدينا منهم الكثيرون جدًا لحسن الحظ.. إننى أخشى أننا ما زلنا نفكر فى الثقافة بإيقاع سنوات الحرب مع الإرهاب والتى كانت تستدعى مزيدًا من الاحتراز والفرز.. ولا يعنى هذا أننى غير منتبه لاختراقات تحدث هنا أو هناك.. أو غير واعٍ ببعض الأمراض التى شاعت فى السنوات الأخيرة.. على العكس تمامًا.. ولكننى مؤمن أيضًا بالثقافة الوطنية وبأنها درع وقاية من ثقافة التخلف والتبعية، فالمثقف الوطنى لا يبيع وطنه بالمال للطامحين ولا يفرط فى حبه لبلده ويحلم بأن يراه فى أفضل حال وهو الهدف نفسه الذى يرفعه الرئيس السيسى ويسعى من أجله.. إن لدىّ ملاحظات كثيرة على السياسة الثقافية فى عصور ماضية لكننى لا أنكر أن معرض الكتاب كان مناسبة لتسويق اسم مصر فى العالم العربى، وأذكر أن نجوم الثقافة فى العالم العربى كانوا يتسابقون للقاء الجمهور المصرى، وأذكر أنه فى عام ١٩٨٩ وكان عام عودة مصر للصف العربى أن تزاحم فى أمسيات المعرض كل من محمود درويش ونزار قبانى وأدونيس وسعدى يوسف وعبدالوهاب البياتى وسميح القاسم وسعاد الصباح وبلند الحيدرى ومحمد على شمس الدين وكلها أسماء كبيرة للغاية تدخل تحت تصنيف السبع نجوم السياحى الشهير إن لم تتفوق عليه.. وبالتالى فإن علينا أن نسعى لعودة المعرض كمناسبة عربية كبرى ارتبط به الجمهور لعقود طويلة قبل أن تظهر معارض الكتاب الأخرى فى المنطقة وتسعى لأن يكون لها مكان.. ولا أنسى أن معرض الكتاب أتاح لى وأنا أخطو خطواتى الأولى نحو الشباب أن أستمع وجهًا لوجه لعقول بحجم يوسف إدريس وأحمد بهاء الدين وأسامة الباز وغيرهم.. وإن هذا هو الذى ربى مناعتى الطبيعية ضد التطرف والتخلف بعد أن سمعت من هذه العقول الكبيرة وذات المصداقية نقدًا له.. إذ إن المصداقية أمر ضرورى جدًا فى الوجوه التى تتصدر المنصات لتتحدث للناس وبدونها فإن الكلام المراق فى الميكروفونات لا قيمة ولا وزن له.. من إيجابيات المعرض هذا العام الاحتفال باسم كبير مثل صلاح جاهين.. لكن العيب أن هذا الاحتفال المستحق حرمنا من الاحتفال بمرور نصف قرن على رحيل طه حسين وهو مثقف عالمى يعرف العالم قيمته وإنجازه ونحتاج نحن لتعريف الأجيال الجديدة من المصريين به وبما يمثله من معنى وقيمة.. أما ما لا يمكن إنكاره فهو أن زيارة المعرض فى مقره الجديد والذى انتقل له منذ سنوات متعة كبيرة وتجسيد لمعنى الجمهورية الجديدة التى لا ترضى بما هو بالٍ ومستهلك وتسعى لتحديثه ليليق باسم مصر ومكانتها، وأقول مخلصًا إن ملف الثقافة المصرية من المجالات التى تحتاج لاهتمام الرئيس شخصيًا لوضعها فى مجالها الاستراتيجى ومنحها رؤية تساهم بها فى تعضيد القوة الناعمة المصرية دون تغيير طبيعتها أو وصف ما هو غير ثقافى بأنه ثقافى أو الخلط بين الإعلامى والمثقف.. أو الادعاء بأن غير المثقف هو مثقف كبير.. فهذه الادعاءات كلها تبطل سلاح الثقافة وتشكك فى مصداقية المسئولين عنها وتحرم الدولة من سلاح هام وخطير فى مواجهة الجميع اسمه الثقافة المصرية.