أسرار عظمة الفرعون المحارب
انتهيت من قراءة كتاب «رمسيس الثانى- القصة الكاملة» للأستاذ «محمد محى»، فى طبعته الثانية الصادرة عن دار الرواق، بعدد صفحات ٣٦٣ صفحة.
كثيرة هى المصادر التى تتحدث عن «رمسيس الثانى»، وأيضًا كثيرة هى الشائعات التى طالته دون أساس علمى أو تاريخى صحيح. فـ«رمسيس الثانى» هو أحد أعظم ملوك مصر القديمة، بل وأشهرهم، بسبب كم الآثار العظيمة التى تركها، على سبيل المثال وليس الحصر، معبد أبوسمبل ومعبد الرامسيوم الجنائزى وتكملته لمعبد الكرنك، وغيرها الكثير من شواهد عصره التى وصلت لنا من آلاف السنين، والتى كانت تحكى لنا عظمة إنجازات هذا الملك العظيم.
يشتهر «رمسيس الثانى» بموقعة قادش، وسبب تلك الشهرة هى تسجيل «رمسيس الثانى» كل أحداثها بالتفصيل الممل وكأنه فيلم وثائقى متكامل على جدران معابده، لحسن الحظ تصل لنا كل تلك الجداريات لتكون شاهدة عبر العصور على قوة حكم وعصر «رمسيس الثانى». كما يشتهر «رمسيس الثانى» بصاحب أول وثيقة توقيع سلام بين بلدين فى التاريخ. أما شهرة «رمسيس الثانى» بين عامة الناس فمختلفة، فقد طالت الشائعات «رمسيس الثانى» كونه الوحيد المعروف بين العامة، بأنه هو فرعون موسى الذى أغرقه الله وجيشه فى البحر كما ورد فى القرآن الكريم والتوراة. وتلك الشائعة طالته أيضًا على الصعيد العالمى ليس فقط المصرى أو العربى. ومن قوة تلك الشائعة انشغل العديد من العلماء والباحثين، فى تحليل تاريخ ومومياء «رمسيس الثانى» بشكل دقيق للوقوف على صحة الشائعة من عدمها، وظهر من أجلها العديد من الكتب والنظريات التى تدور حول إثبات أو نفى كونه فرعون موسى.
الحقيقة أنى قرأت الكثير من الكتب عن «رمسيس الثانى»، وكلها كانت تدور عن جزء معين حول هذا الملك العظيم، وكلها تنتهج الطبيعة الأكاديمية البحثية فى الكتابة، حتى عثرت على كتابنا اليوم للأستاذ «محمد محى». شدنى الكتاب من غلافه إذ كتب عليه القصة الكاملة، فمنيت نفسى بكتاب يتحدث عن زمن «رمسيس الثانى» بكل جوانبه. وهذا ما أكده لى الكاتب فى مقدمته عندما قال إن كتابه عن «رمسيس الثانى» من الميلاد حتى الممات.
ولكنى عند قراءتى للكتاب، خطفنى الكاتب بأسلوبه المتميز. فقد قسم الكتاب إلى فصول، وكل فصل تضمن تحته عناوين رئيسية. والجميل فى الكتاب أننى شعرت فى كل فصل من فصوله بأنى أقرأ لكاتب جديد بأسلوب مختلف وطريقة عرض مختلفة. فهناك فصول انتهج فيها الكاتب طريقة وأسلوب الكتابة الروائية فى السرد، كما فعل فى حكاية اكتشاف وادى الملوك، وحكاية وفاة «حور محب» وحكايته التفصيلية لكل مراحل التحنيط وجنازة الملوك المهيبة وطريقة الدفن والطقوس والشعائر بشكل مبهر ومحبب جدًا للقراءة. وأيضًا فى حكاية نقل مومياء «رمسيس الثانى» لباريس فى السبعينيات وطريقة استقباله الملكية، فعرضها الكاتب بطريقة تكاد تقترب للعرض السينمائى، فأنت هنا تقرأ وكأنك تسمع وتشاهد. كما استطاع الكاتب تصوير معركة قادش بشكل ممتع جدًا وكأنك فى قلب الحدث، بجانب «رمسيس الثانى»، تستمع لأوامره لجنوده، وتسمع صيحاته الحماسية التى رجت قلوب أعدائه فى قلب المعركة. وهناك فصول أخرى يتناول الكاتب معلوماته بشكل أكاديمى، ولكنها تخلو من صيغة الجمود فى توصيل المعلومة، فكانت عباراته رشيقة تتقرب إلى عقلية القارئ البسيط.
لم يقتصر الكاتب فى حديثه عن «رمسيس الثانى» عن الميلاد حتى الممات فقط، ولكنه بدأ منذ «أحمس» والملوك المتعاقبة بعده حتى يفهم القارئ الأبعاد التاريخية والسياسية لمصر حتى أنجبت «رمسيس الثانى» وتفهم أسباب سياسته الحربية التى انتهجها. فنجد ذكر «تحتمس الثالث» ومعركته الشهيرة مجدو العظيمة، الذى اتخذه «رمسيس الثانى» مثلًا أعلى له. كما ذكر «أخناتون» وسياسته المتراخية وأزماته الدينية والسياسية التى أثرت على الوضع العام فى مصر من بعده، حتى أنقذها «حور محب» ومن بعده دولة الرعامسة.
أما أهم جزء فى الكتاب، فهو توضيح الكاتب وإجابته عن سؤال هل «رمسيس الثانى» هو حقًا فرعون موسى؟. وحتى يجيب الكاتب عن هذا السؤال تناول الكاتب الموضوع بشكل قصصى فى البداية، فحكى محاولات دكتور «موريس بوكاى» وتحايله حتى يصل لمومياء «رمسيس الثانى» وابنه «مرنبتاح» لمحاولة إثبات أن أحدهما هو فرعون موسى ولكن محاولاته كلها كانت غير دقيقة علميًا وبها الكثير من لى الحقائق لإصراره إلصاق شخصية فرعون موسى بهما. ثم يفسر سبب انتشار الحديث أن فرعون موسى هو مرنبتاح ابن رمسيس الثانى فى العالم العربى بالتحديد مع ظهور شائعة إسلام دكتور «بوكاى» عند اكتشافه مومياء «مرنبتاح» وعليها آثار الغرق. مع أن لا دكتور «بوكاى» أسلم ولا مومياء «مرنبتاح» ولا «رمسيس الثانى» بهما آثار غرق، بل إنهما توفيا بسبب الشيخوخة. فـ«رمسيس الثانى» قد تجاوز الثمانين، وابنه «مرنبتاح» تولى العرش بعد والده وهو فى الستين من عمره. وقد أثبت العلم الحديث كذب كل ما قاله «بوكاى» وما حاول تفسيره فى هذا الشأن. فشخصية فرعون موسى حتى الآن مجهولة تاريخيًا، ولم تكشف الآثار عنها أى ذكر.
يجمع الكتاب جميع جوانب حكم فترة حكم «رمسيس الثانى» السياسية من علاقاته الخارجية وتنظيم الدولة داخليًا، والعسكرية من حيث حربه العظيمة فى قادش. والحضارية من حيث البناء والمعمار واهتمامه بوضع بصمته بكثافة فى كل مكان حتى المعبد الذى بدأه أبوه «سيتى الأول» أنهاه ومعابد أسلافه رممها ووضع نقشه عليها، فقد قال «رمسيس الثانى» طالما ستبقى السماء ستبقى آثارى على الأرض. والحياة الزوجية والعائلية وعلاقته بزوجته الأسيرة لقلبه «نفرتارى» وحبه لها، وزوجاته الكثيرات وأبنائه الذين تجاوزوا المائة فى سنوات حكمه الطويلة والمناصب التى ترأسها أبناؤه وإنجازاتهم فى حياة والدهم الملك العظيم. والنظام الوزارى والنظام الكهنوتى ومدى ارتباط الحكم بالتقديس الدينى فى مصر القديمة. وقد أفسح الكاتب المجال لكثير من النقوش والمخطوطات التى تدل على الموقف بشكل متداخل مع السرد فى فواصل توضيحية. وأيضًا عرض الكثير من الرسائل التى كانت متبادلة بين «رمسيس الثانى» وملك الحيثيين. ومما زاد الكتاب جمالًا هو وضع جزء كبير خاص بالصور عن كل ما تحدث عنه الكاتب فى كتابه الملىء بالمعلومات الثرية جدًا من كم كبير من المصادر الموثقة. استطاع الكاتب وضع حياة «رمسيس الثانى» بشكل موثق متكامل بين دفتى كتاب، يظهر فيه بوضوح مدى مجهود الكاتب وموهبته الكتابية