الدولة مسئولة عن منح الناس الأمل
فى كل «محنة» توجد «منحة» ومع كل «ألم» يوجد «أمل» ومع كل دواء توجد أعراض جانبية.. ومع كل إخفاق تولد فرصة جديدة للنجاح.. لا أحد فى مصر كلها سعيدًا بالسعر الذى وصل له الدولار فى مواجهة الجنيه، لكن المؤسف أن هذا هو السعر الحقيقى وأنه وصل لهذا السعر المرتفع بسبب سنوات طويلة كنا ندعم فيها الدولار كما ندعم رغيف العيش.. كنا ندفع من دم قلب المصريين كى يظل سعر الدولار منخفضًا.. هذا الذى كنا ندفعه من دم الحى لدعم الدولار كان يستفيد منه الغنى أكثر مما يستفيد منه الفقير.. الغنى الذى كان يشترى سيارة مرسيدس بمئة ألف دولار كان يدفع ستة جنيهات ثمنًا للدولار يساوى عشرة مثلًا ويركب سيارة مرسيدس اشتراها بدولار مدعوم.. حتى انتشرت مقولة تعبر عن حقيقة وهى أن عدد سيارات المرسيدس فى مصر أكثر من عددها فى ألمانيا.. وأظن أن أساسها كان إحصائية للشركة المنتجة للسيارة فى عام من الأعوام.. وكان الفارق أن المرسيدس فى ألمانيا لا يركبها سوى رموز الصناعة ومن يضيفون للناتج القومى الألمانى.. بينما فى مصر يركبها الأثرياء من طراز «كمبورة» وتجار العملة والممنوع وسماسرة الأراضى وتجار الآثار.. والحقيقة أنهم كانوا يركبونها مدعومة من ميزانية مصر ويضعون فيها لتر بنزين مدعومًا من ميزانية مصر وكأنهم يتخذون الفقراء رهينة يبتزون بها الحكومة.. فإذا رفعت الدولة الدعم عن الدولار وتركته لسعر السوق فإن الفقير قد يضار.. لذلك جبنت الحكومة وظلت تدعم الدولار والبنزين.. وظل الفقراء فقراء وظل الأغنياء يشترون المرسيدس والجولف وغيرها وغيرها للزوجات والأنجال وأنجال الأنجال.. ولا يعنى هذا أننى سعيد بالسعر الذى وصل له الدولار الآن.. فلا أحد يشعر بالسعادة إذا أخبره الطبيب أن عليه أن يجرى عملية بدون مخدر كاف أو أن عليه أن يمتنع عن الطعام الذى يحبه إذا أراد أن يستمر على قيد الحياة.. ولكن هذا لا يمنع أن نفهم جميعًا أننا ندفع فاتورة الإصلاح الذى تأخر.. وفاتورة تشوه النظام الاقتصادى الذى ظل يجمع بين عيوب النظام الاشتراكى وعيوب النظام الرأسمالى دون حسناتهما للأسف الشديد فازداد الفقراء فقرًا وازداد الأغنياء غنى.. وبقى الجميع يقفون فى نفس المربع.. ولعل هذه كانت إطلالة لا بد منها على الماضى قبل أن ننتقل للحاضر.. والحاضر يقول إن المصريين فى هذه الأزمة ثلاث فئات.. الفئة الأولى هى أهلنا من البسطاء والفقراء ومحدودى الدخل وليس أمامنا إلا أن نطالب الدولة بالمزيد من الدعم لهم.. رغم كل ما نراه من سبل الرعاية الحقيقية وأنشطة التحالف الوطنى للعمل الأهلى وصندوق تحيا مصر وجهود الوزارات المختلفة.. أما الفئة الثانية فهى شرائح الطبقة الوسطى العليا والتى أغرقت نفسها خلال العشرين عامًا الأخيرة فى المظهرية والاستهلاك دون داع حقيقى.. فالأطفال أدمنوا الوجبات السريعة والمضرة حتى صارت أهم لهم من وجود الأب والأم ذاتهما.. والمحمول القادم من أمريكا مباشرة حق لكل طفل بمجرد أن يتعلم المشى!! والأب والأم يحمل كل منهما أكثر من جهاز محمول وأكثر من خط تليفون رغم أن بيل جيتس نفسه لا يحمل سوى جهاز تليفون واحد.. والشاليه فى الساحل والسخنة باتا من ضرورات الحياة بعد أن كنا نسعد بإيجار شاليه صغير لمدة أسبوع فى الإسكندرية تلتقى فيه الأسر والعائلات ويتذوق الأبناء فرحة اللعب واللهو غير المرتبط بالمادة على الإطلاق.. والتسوق لا بد أن يكون من السوبر ماركت المعروف بأنه للأثرياء فقط أو كلاس a كما يردد بعضهم باستعلاء.. أما السوبر ماركت الكبير العادى الذى يرتاده الأغنياء والفقراء معًا فهذا سوبر ماركت «بيئة» لذلك يفضل بعضهم أن يشترى نفس السلعة بسعر أغلى من سوبر ماركت الأثرياء مقابل التظاهر أمام المعارف بأنه يشترى من سوبر ماركت «كذا» ولا يذهب أبدًا لسوبر ماركت «كذا» لأنه بيئة ويدخله أولاد البلد!! وأنا أحكى هنا نصوص حوارات دارت أمامى بالفعل.. والحقيقة أن الشرائح العليا من الطبقة الوسطى أو بعضها أنفقت الكثير من الأموال على الاستهلاك.. هذه الأموال كان يمكن أن توجه للاستثمار فى الصناعة أو الزراعة أو الشركات الناشئة بدلًا من كل هذه المظهرية التى لم نستوردها من أوروبا وأمريكا لأنها لا توجد هناك.. ولكن استوردناها من دول الخليج التى أنعم الله عليها بوفرة فى الرزق وقلة فى العدد.. فجاز لأهلها أن يستهلكوا بإفراط ما لا يجوز لنا.. وكانت النتيجة أن بعض العناصر غير الجادة فى هذه الطبقة صارت ترفع عقيرتها بالشكوى والنواح فى الوقت الذى يصيح فيه الفقراء المضارون فعلًا من ارتفاع الأسعار.. وقد بلغ الأمر حد الهزل حيث انتشر منشور لفتاة تشكو من عدم قدرتها على شرب نوع من القهوة المستوردة من سويسرا!! وتعتبر أن هذا بمثابة انحدار طبقى لها!! لكنها نسيت أن تخبرنا ماذا تعمل؟ وماذا قدمت للبشرية كى تستحق هذا النمط الفاخر من الحياة فى حين أن أكبر ملياردير فى أمريكا وهو وارين بافت.. يحرص على ألا يزيد سعر غدائه اليومى عن خمسة دولارات.. إن هذه الطبقة مطلوب منها مزيد من الجدية وتحمل المسئولية والبعد عن المظهرية وأنماط الاستهلاك المبالغ فيها.. وتبقى طبقة الأثرياء أو كبار الأثرياء وعليهم واجب تجاه الله وتجاه الناس.. لا يمكن إجبارهم عليه ولكن يمكن تذكيرهم به.. فالسعادة الحقيقية تكمن فى القدرة على العطاء والبركة تزيد المال ولذلك قال الرسول الكريم «ما نقص مال من صدقة» وقال السيد المسيح «طوبى للفقراء».. أما الدولة فإن أغلى ما تمنحه للفقير هو الأمل فى الغد والشعور بالعدل.. فالأب الفقير على استعداد أن يربط على بطنه حجرًا إذا شعر أن هناك فرصة لابنه فى الغد وأن أحد أبنائه يمكن أن يصبح لاعب كرة تتم رعاية موهبته أو طالبًا فى كلية مرموقة كان يسمع فى الماضى أن دخولها بالواسطة.. أو قاضيًا.. أو صاحب شركة ناشئة تدعمها مبادرة أبدًا.. الأمل هو الذى يجعلنا جميعًا نواصل المعركة مع الحياة والدولة مسئولة عن منح الناس الأمل.