المتفرد.. «الدستور» تحتفى بالراحل محمد عنانى فارس المسرح: تاريخ من المثابرة والعطاء
- دربه عبدالمنعم مدبولى وأخرج له مسرحيتين.. وعروضه تنوعت بين الشعرى والوثائقى والفصل الواحد
- ترجماته لشكسبير تفوقت جماهيريًا وجمع بين الإبداع الشعرى والتدقيق الأكاديمى
عن عمر ناهز الـ٨٤ عامًا، فارقنا الدكتور محمد عنانى.. الشاعر والكاتب المسرحى وأستاذ الشعر الإنجليزى بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة، والملقب بعميد الترجمة وشيخ المترجمين العرب. وغادرنا الراحل قبل عيد ميلاده بيوم واحد، الذى يحل فى ٤ يناير، وقبل الذكرى السادسة لزوجته سيدة النقد المسرحى الدكتورة نهاد صليحة بيومين التى توفيت فى ٦ يناير ٢٠١٧.
وترك المبدع الكبير لنا إرثًا كبيرًا من التأليف والترجمة والنقد الأدبى، وأثرًا لن ينمحى، ونبعًا ينهل منه طلاب العلم وفنانو المسرح فى كافة أنحاء الوطن العربى.. وترك لنا كتبًا مهمة فى أساليب ومناهج الترجمة، منها «معجم المصطلحات الأدبية ومرشد الترجمة وفن الترجمة»، وترك لنا أهم ترجمة عربية لمسرحيات شكسبير، ترجم بعضًا من كتب إدوارد سعيد والفردوس المفقود لجون ملتون، وترجمات أخرى يضيق المجال عن ذكرها. كما أسهم فى ترجمة مؤلفات عربية للإنجليزية، التى تمكن من ناصيتها تمكنه من اللغة العربية، مثل «مؤلفات طه حسين والمسرحيات الشعرية لصلاح عبدالصبور وعزالدين إسماعيل وفاروق شوشة». وحصل على أرفع الأوسمة والجوائز، ومنها وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، وجائزة الدولة فى الترجمة والآداب وجائزة رفاعة الطهطاوى فى الترجمة، بخلاف الجوائز العربية والدولية، كما ترك لنا أيضًا تلاميذه الذين صاروا رموزًا بارزة فى مجالات المسرح والأدب والنقد والترجمة. ولحق دكتور عنانى بالراحلة نهاد صليحة، تاركين ابنتهما السوبرانو وأستاذة الأدب الإسبانى الدكتورة سارة عنانى، لتتحمل إرثًا لأب وأم قليل ما يجود الزمان بمثلهما.
تولى «عنانى» رئاسة تحرير مجلة المسرح فى فترة لم تنقطع الشكوى فيها من أحوال المسرح المصرى، ومن انحسار لم يسبق له مثيل فى مسرح الدولة.
ودعا «عنانى» فى افتتاحية العدد الأول برئاسته إلى الوعى بالمشاكل المتراكمة، واتخاذ خطوات حاسمة تؤدى إلى حل جذرى فى ظل التحدى الكبير مع وسائط الفيديو والسينما.
ووفقًا لحوار أجراه معه محمد سمير الخطيب، مدرس النقد المسرحى بقسم المسرح بكلية الآداب جامعة عين شمس، يقول عن رئاسة تحرير المجلة: «أستهدف التركيز على الدراسات الأكاديمية، وتقديم الحساسيات النقدية الجديدة وقتها مثل الراحل حازم شحاتة، ووفاء كمالو، ومايسة زكى، وغيرهم، ونجحت المجلة بفضل ذلك فى تحديث لغة النقد وتحريرها من الانطباعية، خاصة أن تلك الحساسية كانت وليدة احتياج أظهرته ألوان المسرح الجديدة والمغايرة التى عاينها النقاد والجمهور وفنانو المسرح فى عروض مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى فى دوراته الأولى، التى غطت المجلة حينها كافة عروضه وفعالياته، ودشنت المجلة أيضًا على صفحاتها ميلاد تيار المسرح الحر، حيث خصصت له ملف العدد الرابع والعشرين من نوفمبر ١٩٩٠، تزامنًا مع إطلاق المهرجان الأول له».
من جهته، قال الدكتور مصطفى رياض، الأستاذ بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس، والمترجم للعديد من الأعمال فى مجال الأدب والعلوم الإنسانية، إن محمد عنانى فارس من فرسان المسرح منذ ستينيات القرن الماضى، فقد أثرى الحياة المسرحية طيلة ستين عامًا بنتاج قلمه وفكره فى مجالات النقد المسرحى والتأليف المسرحى وترجمة المسرح، وخصوصًا إنجازه الأبرز الذى يتمثل فى ترجماته الشكسبيرية، التى تنوعت بين المأساة والملهاة والمسرحية التاريخية.
وبدأت إسهاماته المسرحية فى مجال النقد المسرحى وخصوصًا العرض النقدى لما شاهده من عروض مسرحية فى لندن فى أثناء بعثته الدراسية لنيل درجة الماجستير من جامعة لندن، ودرجة الدكتوراه من جامعة ريدينج. وكان ينشر تلك العروض النقدية فى مجلة المسرح فى إصدارها الأول، التى رأس تحريرها الدكتور رشاد رشدى. وسرعان ما تولى «عنانى» رئاسة التحرير فى إصدارات تالية للمجلة، فأسهم فى تنشيط حركة نقدية للمسرح المصرى فى العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.
عن بداية محمد عنانى مع المسرح، كشف الدكتور محمد سمير الخطيب، عن أن علاقة الراحل بالمسرح بدأت عندما اشترك فى فرقة التمثيل بمدرسة الأورمان النموذجية، حيث كان يدربه المخرج الفنان عبدالمنعم مدبولى، وشجعه بأن أخرج له مسرحيتين؛ إحداهما بالعربية، والأخرى بالإنجليزية.
وتابع «لاحظ عبدالمنعم مدبولى أنه لم يكن يجيد التمثيل، ولكنه اكتشف عنده موهبة الكتابة، واقترح عليه الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب لدراسة شكسبير حتى يصبح مؤلفًا. ثم توالت الأحداث بحصوله على منحة للندن لدراسة اللغة والأدب الإنجليزى ولقائه بسمير سرحان صديق عمره ونهاد صليحة رفيقة كفاحه».
وقال «لمسرح محمد عنانى بُعد اجتماعى، ويرتبط بالإنسان والكشف عن تناقضاته والأوهام التى تستبد به، ففى مسرحية «المجاذيب»، يتمثل الوهم فى الانخراط فى الدروشة التى تسيطر على الإنسان والتى يلجأ لها هربًا من وطأة الواقع، وهذه المسرحية فيها نقد لظاهرة الانفتاح، وتدور فى وكالة أبوالريش التى تمت محاولة الاستيلاء على أراضيها عبر النصب والاحتيال».
وأضاف: «فى هذه المسرحية نقد لمرحلة الانفتاح من خلال شخصية (أبو صباع) الذى يسيطر على الناس من خلال الدروشة. ويقف أمامه شخصية- عادل- المثقف الواعى الذى يكشف ممارسات (أبو صباع) الذى كان رمزًا للاستغلال والفساد فى قرية أبوالريش، وحاول شراء أراضٍ لكى يبنى عليها مشروعات وهمية، وتنتهى المسرحية بطرد (أبو صباع) من القرية».
وأشار مصطفى رياض إلى أن عنانى كمؤلف مسرحى، قدَّم مسرحيات تنوعت ما بين المسرح الشعرى والوثائقى ومسرحيات الفصل الواحد، نشر معظمها وقدم على خشبة المسرح، ومن مسرحياته «ميت حلاوة ، والبر الغربى، وجاسوس فى قصر السلطان»، وتعد «الغربان ١٨٨٧»، من أشهر مسرحياته التى عاد فيها إلى التاريخ المملوكى والتى كان بها نوع من التجديد فى المسرح الشعرى، والتى قدمت تاريخًا بديلًا عن التاريخ الرسمى، وهى تعالج فترة الشدة المستنصرية التى سجلها المقريزى، ولكن عنانى قدم تلك الفترة من زاوية الفلاحين والبسطاء الذين قرروا ألا يسلموا القمح للوالى، ويدعون أن الغربان قد طارت به، واستحضر شخصية الراوى من أجل ذلك، ليقارن رواية المقريزى الرسمية برواية أبناء الشعب.
وبالعودة للـ«الخطيب»، فإن ترجمات «عنانى» تميزت بالدقة والاتصال بالسياق المحلى، ضاربًا مثلًا بترجمات جبرا إبراهيم جبرا لشكسبير، وكيف كان المسرحيون يهجرونها وغيرها من الترجمات الأخرى ويفضلون ترجمات «عنانى» لشكسبير.
وأضاف أنه حين سأل عنانى ذات مرة فى هذا الشأن، قال «ترجمات جبرا عظيمة ولكن ربما استثقلها البعض لأنك تسمع لغة عربية بنهج إنجليزى، حيث إنه حاول نقل أبنية اللغة الإنجليزية إلى القارئ العربى، لذا يجد القارئ فى هذا الأسلوب غرابة، فى حين اختلف هذا الأمر أيضًا مع ترجمة خليل مطران؛ إذ كانت ترجمته تهدف لإعداد المسرحية على خشبة المسرح، وكان يكتب المسرحية بالعربية الفصحى من منظوره الخاص كشاعر له أسلوبه المتفرد، ومن ثم كان لا يتردد فى حذف أى شىء لا يتناسب فى نظره مع فهم المشاهد العربى وذائقته» متابعًا: «ترجمة مطران لم تكن فى واقع الأمر نقلًا دقيقًا لشكسبير، بل أشبه بالإعداد عن النص الأصلى».
وقال «من هنا يختلف معهما (عنانى)، لأن منهجه فى الترجمة يقوم على سؤال عما كان شكسبير سيفعل لو قدر له أن يكتب هاملت بالعربية، بالتأكيد كان سيعبر عن الأفكار والصور ذاتها من خلال الثقافة العربية، بحيث يتقبلها القارئ ويفهمها وينفعل معها، وأنه كان دائم البحث فى أبنية اللغة العربية المناظرة للمعنى الدقيق الذى أراده شكسبير، ولكن بإيقاع اللغة العربية مهما كلفه ذلك من وقت وبحث».
وعن عنانى المترجم، قال «رياض»: «جمع بين الإبداع الشعرى والتدقيق الأكاديمى، وأهمها بلا شك ترجمته لما يزيد على عشرين مسرحية من مسرحيات شكسيبر نظمًا، وقد التزم فى ترجمته بأسلوب عربى بليغ يقرِّب النص الأجنبى من القارئ العربى، وقدَّم لترجماته بمقدمات ضافية تشرح الخلفية الاجتماعية والسياسية للمسرحية وتاريخ عرضها والنسخ المحققة التى اعتمد عليها فى الترجمة».
وأردف: «حرص على تقديم هوامش تزيد القارئ شرحًا فيما يتصل بالإشارات الثقافية والتاريخية التى يحملها النص. وتعد مقدمة ترجمته لمسرحية (تاجر البندقية) دليلًا مرشدًا لأسلوبه فى الترجمة. كذلك ترجم أهم مسرحيات هارولد بنتر، المؤلف المسرحى البريطانى الذى تُصنف أعماله تحت مسمى (مسرح اللامعقول) أو (مسرح العبث) فى مجلدين صدرا فى سلسلة الجوائز التى تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب».
أهم ما تحلى به محمد عنانى الإنسان، الإرادة القوية والرغبة فى النفع لآخر لحظة، حين أصيب بسرطان الفم وتم استئصال جزء من اللثة والوجه، وأثر ذلك على جهاز النطق لديه فى أوائل التسعينيات، لم يتوقف ولم يتوارَ، بل ظل حريصًا على الذهاب للجامعة وإفادة تلامذته بعلمه.
ظل يدرس حتى قبيل وفاته بأسبوع وهو فى الـ٨٤، وكانت حركته بحكم السن والشيخوخة متعثرة، وظل يترجم وفقًا لبرنامج يومى حاسم ومستمر، يستيقظ فى الصباح الباكر ليقرأ ويطلع ويكتب يترجم ويعمل حتى المساء.. وربما يذهب إلى الجامعة أو يلتقى ببعض من تلاميذه لمناقشتهم، وكان لديه وقت مقدس للقيلولة وساعة مقدسة لسماع محمد عبدالوهاب، ولربما مشاركته بالعزف على العود الذى عشقه وأجاد العزف عليه، وكانت لديه أوقات ثابتة للطعام، لكن العمل والإصرار على نفع الآخرين كان دأبه لآخر لحظة فى عمره.
فى النهاية، لا يمكن أن يمر رحيل قامة بهذا القدر ورافد من روافد قوة مصر الناعمة، دون أن نودعها وداعًا يليق بها ودون أن نفكر فى طرق لحفظ إرثها الثقافى وإبراز قيمتها، ولتخليد ذكراها وإلهام الأجيال القادمة، بدلًا من أن يتصدر المشهد بعض من شيوخ الفتنة ورموز التطرف أو أبطال التيك التوك، ذى المحتوى الفارغ أو مطربى أغانى التكاتك، الذين يسكبون نفاياتهم علينا فى أغانٍ بذيئة ومعادية للمرأة والمحرضة على العنف.