مغالطات الترجمة إلى العامية
أصدرت إحدى دور النشر منذ أيام ترجمة لرواية إرنست همنجواى «العجوز والبحر»، التى نشرها الكاتب منذ سبعين عامًا وترجمت إلى العربية عشرات المرات.
الجديد أن الترجمة هذه المرة بالعامية، تحديدًا العامية القاهرية، ويأتى ذلك العمل فى سياق محاولة ترجمة الأدب وأحيانًا تأليفه بالعامية، من ذلك رواية ألبير كامو «الغريب» المترجمة إلى العامية، ومن قبل مسرحية شكسبير «عطيل» ١٩٨٩، ومسرحيته «حلم ليلة صيف» ٢٠١٦، بل ورسالة الغفران لأبى العلاء المعرى ٢٠١٦، كما صدرت بالعامية رواية مصطفى مشرفة «قنطرة الذى كفر» مطلع الستينيات، وكتاب لويس عوض «مذكرات طالب بعثة» ١٩٦٥، بل وحصلت رواية بالعامية اسمها «المولودة» على جائزة أدبية.
السؤال هنا: ما الهدف من اللجوء إلى العامية؟ بعبارة أدق كيف يبررون هذا؟ يدّعى البعض أنه يتوخى مخاطبة شريحة عريضة ممن لا يقرأون اللغة الفصيحة، هكذا بقدرة قادر يتضح أن لدينا قُراءً يسألون فى المكتبات عن كتاب بالعامية لأنهم يحسنون فقط القراءة بالعامية! هذا مضحك وغير صحيح، لأن من يقرأ الحروف العربية «وهى حروف العامية» سيقرأ اللغة الفصيحة التى يسرتها وسائل الإعلام.
إذن أيكون الدافع شيئًا آخر مثل الادعاء بأن «العامية» لغتنا القومية ينبغى أن نتمسك بها؟ هنا نسأل: أى عامية تقصد؟ العامية القاهرية، أم الصعيدية، أم السواحلية، أم عامية بدو سيناء، أم عامية أهل النوبة، أى عامية من أولئك تقصد أنها لغتنا القومية؟ الحقيقة أن العامية كانت وما زالت لهجة، واللهجة ظاهرة ملازمة لكل لغات العالم، لأن اللهجة، أو الكلام اليومى، مختبر اللغة الفصيحة، مختبر تنبذ فيه الكلمات الصعبة، وتدخل فيه كلمات جديدة، ينحى أشكال التعبير القديمة، ويبدع جديدة، إلى آخره، وبعد أن تقوم العامية بذلك الفرز والتصحيح، تستوعب الفصيحة كل هذا وتواصل به البقاء، وتظل لغة قومية.
فالعامية على حد قول فؤاد حداد «بنت الفصحى»، تأخذ منها وتعطيها، ومن المفهوم بالطبع أن تتجه فنون مثل السينما والإذاعة وشعر العامية والمسرح إلى العامية، لأن تلك الفنون تخاطب قطاعًا واسعًا قد لا يحسن القراءة فيه عدد ضخم، لكن من السخف أن تتجه العامية إلى الكتاب المطبوع تأليفًا وترجمة بينما لا يسأل عن الكتب سوى قارئ!
اللغة، كل لغة، لا تقوم إلا على معجم كلمات ومنظومة قواعد، وليس للعامية معجم كلمات بعيدًا عن اللغة الفصيحة، وتسعون بالمائة من العامية كلمات فصيحة لا يتسع المجال هنا لضرب الأمثلة.
أيضًا ليس للعامية منظومة قواعد رغم كل محاولات المستشرقين لوضع قواعد لها، لأنها ببساطة لهجة وليست لغة، ولو كانت لغة لكان علينا القول بأن لدينا فى مصر ست لغات على الأقل.
لكن الأهداف من وراء كل تلك المحاولات الحثيثة لتضخيم العامية هى:
أولًا: ضرب اللغة الفصيحة الميسرة التى تجمع كل فئات وطبقات الوطن، مما يعنى مباشرة تفتيت الوطن ذاته بهدم أقوى مرتكزاته، أى وسيلة التفاهم بين الجميع.
ثانيًا: ضرب فكرة الثقافة العربية التى تقوم على اللغة المشتركة.
وعلى أننى أقرأ هنا بدر شاكر السياب وأفهمه، وهم يقرأون فى سوريا نجيب محفوظ ويفهمونه، وفى المغرب يفهمون أعمال بهاء طاهر، إلى آخره. وقد يتصور البعض أنه بتلك المحاولات واعتماد اللهجة يحل مشكلات اللغة الفصيحة «ولها مشاكلها الكثيرة»، لكن الحل يكمن فى تطوير الفصحى وتقريبها للناس.
أخيرًا لقد كان تفتيت اللغة التى توحد الأمة وما زال هدفًا للمستشرقين أنصار الاستعمار الإنجليزى، وفى ذلك السياق وضع ويلهلم سبيتا كتابه «لهجات المصريين العامية» عام ١٨٨٠، وتبعه وليم ويلكوكس، أحد رجال الاستعمار البريطانى وكان مهندسًا للرى فى مصر، حين ترجم مقطوعات لشكسبير بالعامية فى ١٨٩٢، وما زال البعض يخوضون فى ذلك عن وعى، والبعض الآخر عن جهل وخلط بين اللغات واللهجات.