السلام فى أوكرانيا يحتاج الرؤية والشجاعة
بالرغم من إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، انفتاح بلاده على السلام مع أوكرانيا، من خلال المفاوضات، فإنه، وفي خطاب رأس السنة الميلادية الجديدة، أكد أن العام الجديد هو عام الانتصار في المعركة التي أوشكت على اكتمال عامها الأول فوق الأرض الأوكرانية.. إلا أن الرئيس الصيني، شي جين، يرى أن الطريق إلى محادثات السلام بشأن أوكرانيا لن يكون سلسًا، مع تأكيد الجانب الروسي أنه لم يرفض أبدًا حل النزاع من خلال المفاوضات الدبلوماسية، مع تعنت الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، على ضرورة إخلاء موسكو للمقاطعات الأربع، التي انضمت إلى الدولة الروسية، بناءً على الاستفتاء الذي جرى حول ذلك، بعد سيطرة قوات بوتين عليها، بسبب الدعم الأمريكي والأوروبي غير المحدود لكييف، في هذه المعركة.. لكن الذي لا يُدركه زيلينسكي، هو انعدام الثقة في الولايات المتحدة وحلفائها.. والدليل، خيبة الأمل التي عاد بها الرئيس الأوكراني من واشنطن مؤخرًا.. لتصبح هناك أزمة، إن لم تجد حلًا في أقرب وقت، ربما تحولت إلى حرب عالمية، ليس مُستبعدًا فيها، استخدام أسلحة الدمار الشامل، التي قد تُهدد العالم بالفناء، إذ لم تجد عاقلًا يُدرك المخاطر، قبل فوات الأوان.
كانت الحرب العالمية الأولى نوعًا من الانتحار الثقافي الذي دمر سماحة أوروبا.. سار زعماء القارة نائمين ـ على حد تعبير المؤرخ كريستوفر كلارك ـ إلى صراع لم يكن أي منهم ليدخله، لو توقعوا ما آلت إليه الحرب عام 1918.. في العقود السابقة، عبروا عن خصوماتهم، من خلال إنشاء مجموعتين من التحالفات التي أصبحت استراتيجياتها مرتبطة بجداول التعبئة الخاصة بكل منها.. في عام 1914، سُمِح لمقتل ولي عهد النمساوي في سراييفو بالبوسنة، على يد قومي صربي، بالتصعيد إلى حرب عامة، بدأت عندما نفذت ألمانيا خطتها متعددة الأغراض لهزيمة فرنسا بمهاجمة بلجيكا المحايدة، في الطرف الآخر من أوروبا.. شرعت دول أوروبا، التي لم تكن على دراية كافية بكيفية تعزيز التكنولوجيا لقواتها العسكرية، في إلحاق دمار غير مسبوق ببعضها البعض.. وبعد عامين من الحرب وملايين الضحايا، بدأ المقاتلون الرئيسيون في الغرب ـ بريطانيا وفرنسا وألمانيا ـ في استكشاف آفاق إنهاء المذبحة.. في الشرق، قدم الخصمان النمسا وروسيا تصرفات مماثلة.. ولأنه لا يمكن تصور أي حل توفيقي يمكن أن يُبرر التضحيات التي تكبداها بالفعل، ولأن أحدًا لا يريد أن يعطي انطباعًا بالضعف، فقد تردد القادة في الشروع في عملية سلام رسمية.. ومن ثم سعوا إلى الوساطة الأمريكية.. وكشفت الاستكشافات التي قام بها العقيد إدوارد هاوس، المبعوث الشخصي للرئيس وودرو ويلسون، أن السلام القائم على الوضع الراهن كان في متناول اليد، ومع ذلك، فإن ويلسون، على الرغم من استعداده وحرصه في على القيام بالوساطة، تأخر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية.. وبحلول ذلك الوقت، أضاف هجوم السوم البريطاني وهجوم فردان الألماني مليوني ضحية أخرى.
على حد تعبير فيليب زيليكو، أصبحت الدبلوماسية الطريق الأقصر سفرًا.. استمرت الحرب العالمية لمدة عامين آخرين، وأودت بحياة ملايين الضحايا، مما ألحق أضرارًا بالتوازن الراسخ في أوروبا.. اختفت الدولة النمساوية المجرية من الخريطة، كانت فرنسا قد نزفت دمًا، وضحت بريطانيا بحصة كبيرة من جيلها الشاب وقدراتها الاقتصادية من أجل متطلبات النصر.. وأثبتت معاهدة فرساي العقابية التي أنهت الحرب، أنها أكثر هشاشة بكثير من الهيكل الذي حلت محله.
وهنا يتساءل السياسي المُخضرم، هنري كيسنجر: هل يجد العالم نفسه اليوم عند نقطة تحول مماثلة في أوكرانيا، حيث يفرض الشتاء وقفة على العمليات العسكرية واسعة النطاق هناك؟.
ويُجيب كيسنجر، لقد أعربت مرارًا وتكرارًا عن دعمي للجهود العسكرية للحلفاء لإحباط العدوان الروسي في أوكرانيا.. ولكن الوقت يقترب للبناء على التغييرات الاستراتيجية التي تحققت بالفعل، وإدماجها في هيكل جديد نحو تحقيق السلام من خلال المفاوضات.. أصبحت أوكرانيا دولة رئيسية في أوروبا الوسطى، لأول مرة في التاريخ الحديث.. بمساعدة حلفائها، أحبطت أوكرانيا القوات التقليدية الروسية التي كانت تُخيم على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.. ويعارض النظام الدولي، بما في ذلك الصين، تهديد روسيا أو استخدامها لأسلحتها النووية.
وقد أثارت هذه العملية القضايا الأصلية المتعلقة بعضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي.. حصلت أوكرانيا على واحد من أكبر الجيوش البرية وأكثرها فعالية في أوروبا، والتي جهزتها أمريكا وحلفاؤها..وهنا، يجب أن تربط عملية السلام في أوكرانيا بحلف شمال الأطلسي، مهما تم التعبير عنها.. لم يعد بديل الحياد ذا معنى، خصوصًا بعد انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي.. ولهذا السبب، أوصيت في مايو 2022، بإنشاء خط لوقف إطلاق النار على طول الحدود القائمة، حيث بدأت الحرب في فبراير.. ومن ثم، ستتخلى روسيا عن فتوحاتها، ولكن ليس الأراضي التي احتلتها منذ ما يقرب من عقد من الزمان، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.. ويمكن أن تكون تلك المنطقة موضوع مفاوضات بعد وقف إطلاق النار.
إذا لم يكن من الممكن تحقيق الخط الفاصل قبل الحرب بين أوكرانيا وروسيا عن طريق القتال أو التفاوض، فيمكن استكشاف اللجوء إلى مبدأ تقرير المصير.. ويمكن تطبيق الاستفتاءات الخاضعة للإشراف الدولي، بشأن تقرير المصير على الأقاليم المثيرة للانقسام بشكل خاص، والتي تغيرت السيطرة عليها مرارًا وتكرارًا على مر القرون.. سيكون الهدف من عملية السلام ذا شقين: تأكيد حرية أوكرانيا وتحديد هيكل دولي جديد، خصوصًا بالنسبة لأوروبا الوسطى والشرقية.. في نهاية المطاف يجب على روسيا أن تجد مكانًا في مثل هذا النظام.
النتيجة المفضلة بالنسبة للبعض، هي أن روسيا أصبحت عاجزة بسبب الحرب.. أنا لا أوافق ـ يؤكد كيسنجر ـ وعلى الرغم من كل ميلها إلى العنف، قدمت روسيا إسهامات حاسمة في التوازن العالمي، وفي توازن القوى لأكثر من نصف ألف عام.. وينبغي عدم الانتقاص من دورها التاريخي.. لم تؤد النكسات العسكرية الروسية إلى القضاء على امتدادها النووي العالمي، الأمر الذي مكنها من التهديد بالتصعيد في أوكرانيا، وحتى لو تضاءلت هذه القدرة، فإن تفكك روسيا أو تدمير قدرتها على السياسة الاستراتيجية، يمكن أن يحول أراضيها، التي تضم إحدى عشر منطقة زمنية، إلى فراغ متنازع عليه.. وقد تُقرر مجتمعاتها المتنافسة تسوية نزاعاتها بالعنف.. وقد تسعى بلدان أخرى إلى توسيع مطالباتها بالقوة.. كل هذه المخاطر ستتفاقم بسبب وجود الآلاف من الأسلحة النووية التي تجعل روسيا واحدة من أكبر قوتين نوويتين في العالم.
وبينما يسعى قادة العالم إلى إنهاء الحرب التي تتنافس فيها قوتان نوويتان على دولة مسلحة تقليديًا، ينبغي لهم أيضًا أن يفكروا في التأثير على هذا الصراع، وفي الاستراتيجية الطويلة الأجل للتكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي.. وتوجد بالفعل أسلحة ذاتية الصنع، قادرة على تحديد التهديدات المُتَصورة وتقييمها واستهدافها، وبالتالي فهي في وضع يمكنها من بدء حربها الخاصة.
وبمجرد تجاوز الخط إلى هذا المجال، وتصبح التكنولوجيا الفائقة أسلحة قياسية ـ وتصبح أجهزة الكمبيوتر هي المنفذ الرئيسي للاستراتيجية ـ سيجد العالم نفسه في حالة لا يوجد لديه حتى الآن مفهوم راسخ لها.. كيف يمكن للقادة ممارسة السيطرة عندما تصف أجهزة الكمبيوتر تعليمات استراتيجية على نطاق وبطريقة تحد بطبيعتها وتهدد المُدخلات البشرية؟.. كيف يمكن الحفاظ على الحضارة وسط هذه الدوامة من المعلومات والتصورات والقدرات المدمرة المتضاربة؟
لا توجد حتى الآن نظرية لهذا العالم المتعدي، ولم تتطور بعد الجهود الاستشارية بشأن هذا الموضوع، ربما لأن المفاوضات الهادفة قد تُفصح عن اكتشافات جديدة، وأن الكشف في حد ذاته يشكل خطرًا على المستقبل.. إن التغلب على الانفصال بين التكنولوجيا المتقدمة ومفهوم استراتيجيات السيطرة عليها، أو حتى فهم آثارها الكاملة، لا يقل أهمية اليوم عن تغير المُناخ، ويتطلب قادة يجيدون التكنولوجيا والتاريخ.. وللسعي إلى تحقيق السلام والنظام، هناك عنصران يعاملان أحيانًا على أنهما متناقضان: السعي إلى تحقيق عناصر الأمن واشتراط أعمال المصالحة.. وإذا لم نتمكن من تحقيق كليهما، فلن نتمكن من الوصول إلى أي منهما.. قد يبدو طريق الدبلوماسية مُعقدًا ومحبطًا، لكن التقدم إليها يتطلب الرؤية والشجاعة للقيام بالرحلة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.