الاستثمار فى صناعة الوجدان «٢»
من أكبر المناطق التى أهملناها فى صناعة الوجدان المصرى.. الفن الشعبى الفطرى الخارج من الثقافة التقليدية المصرية دون أن يمر على مدارس ومعاهد الفن الأكاديمية التى أسسناها على النمط الأوروبى.. إن لدينا ثروة حقيقية من الفنانين الشعبيين بمختلف تنوعاتهم.. وعلينا أن نهتم بهم، فوجودهم فى حد ذاته رسالة ضد التطرف والتزمت وتأكيد على أن المصرى بفطرته مبدع ومتسامح وجذور الفن بداخله ممتدة منذ آلاف السنين.. وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن لدينا باقة من أروع المنشدين الدينيين من الذين تخطوا العقدين السادس والسابع من أعمارهم.. يحلقون فى سماوات عالية من الشعر الصوفى والأصوات الندية والألحان الأصيلة المعبرة عن الوجدان المصرى.. منهم على سبيل المثال لا الحصر المنشد الصوفى الكبير أحمد برين.. ومنهم أيضًا الشيخ ياسين التهامى إمام المداحين ومنهم المنشد التونى.. إن هذه الأسماء التى أثق أن البعض يقرأ عنها لأول مرة هى أسماء نجوم عالية فى سماء الفن الشعبى بمعناه العام.. جمهورهم بالملايين أو بعشرات الملايين يسمعونهم فى الموالد الكبرى التى كانت تقام كل عام من شمال مصر إلى جنوبها وتتحول إلى كرنفالات شعبية حقيقية ينسى الناس فيها همومهم ويلتمسون البركة والسعادة معًا.. من مولد سيدى إبراهيم الدسوقى شمالًا إلى مولد سيدى عبدالرحيم القنائى جنوبًا.. مرورًا بالموالد الكبرى فى القاهرة لآل البيت العظام الحسين بن على والسيدة زينب والسيدة نفيسة وغيرهم عشرات وعشرات.. ومن الغريب جدًا أن إعلامنا كله ومنذ سنوات طويلة جدًا.. بل وربما منذ تأسيسه.. يتخيل أن الفن قاصر على من يتخرجون فى معاهد الموسيقى ويرتدون البدل الغربية ويصففون شعورهم عند الكوافير.. فلم يكن يستضيف سوى هؤلاء «الأفندية» فى الماضى ولا يذيع سوى أغانيهم ولا يعترف سوى بهم.. وعندما صعد الذوق الشعبى وظهرت موسيقى المهرجانات راحت بعض القنوات الخاصة وغير المصرية تبالغ فى استضافة مطربى المهرجانات بما يمثلونه من مواهب وابتذال معًا.. وكان المراد أن يقال إن هذا هو الفن الشعبى المصرى وإن «عنبة» و«كزبرة» و«شاكوش» هم الشعب المصرى.. فى حين أن الفن الشعبى الحقيقى هو الذى يغنى فيه «برين» و«التهامى» و«التونى» قصائد ابن الفارض والخيام والنفرى وغيرهم من أكابر الصوفية العظام.. واللافت أن الصعيدى أو الفلاح العادى يتذوق كل هذا الرقى ويعشقه ويدمنه ويطارد مبدعيه من مولد لمولد ومن مدينة لمدينة ومن ليلة لليلة.. ولا يستلفت هذا نظر بعض مذيعى القنوات الخاصة الذين كانوا يتابعون أنباء «شاكوش» و«كزبرة» بإلحاح يجعلنا نشعرهم أن قضاياهم قضايا ملحة وخطيرة وعاجلة وضرورية وكأنها إحدى قضايا الأمن القومى.. ولا أبرئ قنواتنا الوطنية والرسمية هنا من تهمة إهمال منشدينا العظام الذين ضربت المثل ببعض أسماء الكبار منهم وأثق أن هناك جواهر أخرى مخبوءة فى دلتا مصر وصعيدها وحضرها وحواريها.
وعلى سبيل المثال أيضًا أتوقف عند فيلم تسجيلى عظيم القيمة أعده الباحث «زكريا إبراهيم» عن المطربة الشعبية «شفيقة» أو «أم كلثوم الغلابة» كما وصفها جيرانها وبعض معجبيها عن حق.. لقد ألقى الفيلم الذى لم يتكلف إنتاجه الكثير وتم عرضه على موقع «يوتيوب» الضوء على حياة مطربة شعبية موهوبة عاشت فى مدينة طنطا ومارست الغناء طوال السبعينيات والثمانينيات هى شفيقة «١٩٥٧-٢٠١١» والتى عرفت فى فترة باسم ملكة الكاسيت والتى بدأت رحلتها فى ١٩٧٠ واستمرت حتى اعتزالها فى ٢٠٠٤ ثم عودتها فى ٢٠٠٧ ثم مرضها ورحيلها فى ٢٠١١.. والحقيقة أننى ما إن شاهدت الفيلم حتى ربطت على الفور بين صور المطربة ذات الجمال الشعبى وبين أغنية شهيرة أعرفها جيدًا لكننى لم أكن أعرف من هو المطرب أو المطربة التى تغنيها.. حيث لهذه المطربة صوت عابر للأجناس وهى صفة تميز بها صوت سيدة الغناء وأيقونة الطرب «أم كلثوم» والحقيقة أن «شفيقة» كما شاهدتها فى الفيلم الوثائقى الهام.. تشابهت مع أم كلثوم فى قوة الشخصية والحضور على المسرح.. إننى أرى أن الدافع للاهتمام بهذه المطربة الشعبية وإذاعة فيلم عن حياتها هو دافع سياسى وحضارى قبل أن يكون دافعًا معرفيًا.. لأن حياتها وعملها رسالة تقول إن الشارع المصرى بطبيعته ليس متطرفًا ولا متزمتًا ولا رافضًا الفن.. بل إنه كان يحتفى بمطربة شعبية تغنى أغانى ذات قيمة كبيرة وخالية من أى إسفاف ويتعامل معها بمنتهى الاحترام والتقدير.. والمعنى أن التطرف وافد علينا وأنه آن الأوان لنا أن نتخلص من هذا الميراث المسموم الذى تم زرعه بالإجبار وبقوة المال فى الشارع المصرى ثم تخلص منه أصحابه الأصليون فى تطور محمود نحييه ونشجعه.. ونشيد به.. إننى أطالب الشركة المتحدة بأن تطلق قناة للإنشاد الدينى والمديح وكافة فنون الشعب الفطرية والطالعة من أسفل لأعلى وليس من أعلى لأسفل وأقول إن كثيرًا من هذه الفنون الأصيلة يمتاز برقى ومستوى فنى رفيع للغاية يعبر عن حضارة هذا الشعب وجذور الحكمة والإبداع داخله.. وأقول أيضًا إن هذا الفن الأصيل تم تغييبه عن الإعلام العام بفعل صعود التطرف وبفعل الرغبة فى محو الشخصية القومية لمصر كى تشبه غيرها أو تصبح ظلًا باهتًا لغيرها.. وهو أمر مستحيل بالضرورة مهما طال الزمن.. إذ يخرج دائمًا من أبنائها من يعرف قيمتها ويلبى نداءها ويعيد بناء ما حاول الآخرون هدمه.. إننى أثق أن إحياء الفن الشعبى الأصيل ومساندته هو مهمة سهلة للشركة المتحدة يمكنها أن تتعاون فيها مع وزارة الثقافة ومع عدد من المراكز الجادة التى تعمل على هذا الملف واضطر بعضها للتعاون مع المراكز الثقافية الأجنبية كى يواصل عمله فى فترات سابقة.. وأنا أقول إننا أولى بالاهتمام بفننا الشعبى ومقوماتنا الروحية.. وهذه خطوة واحدة من خطوات ترميم الوجدان المصرى سيتبعها خطوات أخرى قادمة بإذن الله.