الاستثمار فى صناعة الوجدان
كنت أفكر أننا يجب أن نستثمر أكثر من هذا فى «صناعة الوجدان المصرى» حين طالعت ملف الزميلة «الوطن» عن السيدة نفيسة، رضى الله عنها وأرضاها.. بدا الأمر وكأن هناك خطًا مفتوحًا بينى وبين الزملاء فى «الوطن» بقيادة الصديق أحمد الخطيب.. كانت فكرتى الأساسية أننا نملك طاقة روحية جبارة تم تغييبها بفعل فاعل.. كان المفكرون الأوروبيون فى بداية القرن الماضى يسهبون فى الحديث عن سحر الشرق فى مواجهة عادية الغرب.. وعن دفء الشرق فى مواجهة برودة الغرب.. وعن عراقة حضارات الشرق فى مقابل حداثة الغرب ونهضته.. وكانت مصر هى أروع مثال لهذا الشرق بتاريخها العريق وصلة الناس فيها بالسماء.. وهى صلة لم تنقطع فى يوم من الأيام.. فمصر هى مهد الديانات ومنها خرج موسى وفيها تعلم عيسى وذكرها الله فى قرآنه مراتٍ عديدة وإليها لجأ آل بيت النبى الكريم حين اشتدت عليهم صراعات السياسة وأطماع الحكم.. والدين بمعناه التاريخى والروحى وليس الطقوسى والشكلى هو أحد أهم أعمدة الوجدان المصرى.. لكنه ليس العمود الوحيد.. فهناك أيضًا الفن.. توأم الدين على عكس ما يتخيل المتطرفون ومروجو ثقافة الصحراء.. فالفن كان يقدم فى المعابد القديمة فى مصر للتعبير عن المعانى السامية.. وفى عصرنا الحديث فإن كل موسيقيينا العظام هم مشايخ حافظون للقرآن والشعر العربى والتواشيح من أول سلامة حجازى وسيد درويش ومرورًا بزكريا أحمد العظيم ومحمد عبدالوهاب مجدد الموسيقى المصرية وأم كلثوم درة التاج وسيدة الفن.. وهكذا فإن الدين بمعناه الروحى ووجهه الصوفى والفن بمعناه الراقى هما عمودا الوجدان المصرى.. ودعامتاه.. ولم يكن غريبًا أن يتعرض كلاهما لهجمة شرسة بعد نكسة يونيو وإجراءات تحجيم مصر داخليًا وخارجيًا كثمن لتعويمها بعد الهزيمة.. فعلى مستوى الدين تم تمويل مدارس سلفية متزمتة بمليارات الدولارات لنشر طبعة تدين مستوردة وغريبة على المجتمع المصرى.. تهاجم التصوف وتحرم الفن وتعتبر المرأة عورة.. وكأنها تستهدف الثلاث مميزات التى كانت مصر تتميز بها حضاريًا عن غيرها.. وفى الفن تم إنفاق المليارات على ظاهرة غريبة عرفت باسم «حجاب الفنانات» وعلى إهدار طاقة فنانينا الموهوبين فى أفلام رديئة عرفت باسم «أفلام المقاولات» كانت تصنع فى أيام قليلة للاستهلاك خارج مصر بشروط فنية بالغة الرداءة.. ومع الهجوم على الدين والفن كان الهجوم على قيم أساسية فى حياة المصريين كانت سندًا لهم عبر العصور.. فقد تم استبدال معنى الزهد بالشره فى الاستهلاك.. وتم استبدال معنى العمل بالكسل و«الأنتخة» وتم استبدال سعى المصرى للقيمة المعنوية ونيل الاحترام بسعيه للمادة.. وشاع تعبير «الجنيه غلب الكارنيه».. أى أن من يملك النقود أصبحت قيمته تفوق من يملك «كارنيه» يثبت انتماءه لنقابة مهنية محترمة أو لمنصب رسمى.. وهو نفس المعنى الذى باتت تؤكده أمثال أخرى مثل «أبجنى تجدنى» و«ظرفنى تعرفنى» ولا أظن أن هذه الأمثال ومدلولاتها فى حاجة لشرح منى.. لقد تحولنا مع الوقت وشيوع الاستهلاك وسفر الملايين إلى دول الخليج إلى شعب يكره العمل ولا يلتفت للقيم الروحية التى هى ثروته الحقيقية وأصبحنا ننتظر الريع الذى نعيش عليه بدلًا من السعى والعمل ومصارعة الحياة.. وأصيب الجميع أو الأغلب.. بالرخاوة والنهم والتطلع وربط السعادة بالاستهلاك رغم أن السعادة لها أبواب كثيرة جدًا غير المادة.. لا يعنى هذا أننى أقلل من أهمية تلبية الاحتياجات المادية من مأكل ومشرب وملبس كريم لكل مواطن حسب ظروفه ولكننى أشير لاعتبار البعض أن الاستهلاك المبالغ فيه هو مفتاح السعادة.. فالبعض فى الريف يعتقد أن العروس يجب أن تجهز بمئات المفارش وعشرات الأجهزة.. فإذا لم تسعفه ظروفه لتلبية هذا النزوع الخاطئ من الأساس.. لام الحظ والظروف والحكومة.. والدنيا الغادرة.. والحكومة المقصرة.. والبعض يعتقد أنه يجب أن يحمل خطين أو ثلاثة للهاتف المحمول ويدفع قيمة اشتراك هنا وباقة هناك وكارتًا هنا وشحنًا هناك.. فإذا لم تسعفه ميزانيته لذلك.. لام الحظ والظروف والحكومة والمشاريع التى التهمت النقود.. والبعض يظن أن أقل واجب يفعله مع أسرته هو أن يصطحبهم كل أسبوع لمول من المولات الضخمة التى غزت مصر خلال عشرين عامًا فقط.. وأن ينفق مئات الجنيهات فى محال الوجبات السريعة وفروع المقاهى العالمية.. فإذا لم تسمح ميزانيته بذلك لام الحظ والظروف والحكومة التى أنفقت الأموال على المشاريع.. والحق أن الجميع يفعل ذلك بحثًا عن السعادة وهى حق مشروع.. لكن الخدعة أن أحدًا لم يعلم المواطن أن للسعادة أبوابًا أخرى غير الاستهلاك الشره وعديم القيمة الذى يتحول فيه لفريسة لشركات المحمول ومطاعم الوجبات وشركات القروض الشخصية وإدارات الفيزا كارت.. الحكومة نفسها لا تعلم المواطن هذا لأنها تحب أن يزيد الاستهلاك كى تدور عجلة الاقتصاد أو لأنها بلا وجهة نظر فى هذا الموضوع.. وباعتبارى من مواليد النصف الأول من السبعينيات يمكننى أن أقول إن مصر لم تكن أبدًا على هذا النحو من الشره الاستهلاكى والانقياد لكل ما هو مادى إلا فى الثلاثين عامًا الأخيرة. لقد كان النموذج الذى تكرسه الدراما قبل هذا هو نموذج المقاول العصامى الذى يأتى من الصعيد ليعمل ويعمل ويعمل حتى يحقق النجاح.. كان هذا هو واقع المصريين.. إنفاق قليل وعمل جاد من أجل تربية الأبناء.. كما نسمع كل يوم عن عامل البناء الذى صار أبناؤه أطباء ومهندسين وعن الفراش الذى صار ابنه معيدًا فى الجامعة وابنته طبيبة.. قصص يومية عادية جدًا.. لم تكن وقتها تستحق أن تتحدث عنها الصحف أو تعتبرها أمرًا غريبًا كما نفعل الآن بعد نتيجة الثانوية العامة كل عام.. كان هؤلاء البسطاء يستمدون سعادتهم من الوجدان.. من القيمة.. لا من الأكل والحديث فى المحمول وتجهيز الفتيات على طريقة قطر الندى.. كان الأب يجد قيمة فى نجاح أبنائه وقيمة فى أن يعتز لكرامته وقيمة فى أن يقال إنه نظيف اليد ويجد سعادة فى أن يزور سيدنا الحسين أو السيدة زينب.. هذه السعادة ليست مادية.. بل روحية.. لا تكلف الساعى لها مئات الجنيهات مثل زيارة المول التجارى.. لكنها تتسبب فى سعادة أكثر بكثير لمن يعرف قيمتها.. وهى لا تختلف عن السعادة التى يسببها سماع أغنية لأم كلثوم أو غيرها من كبار فنانينا لمن يعرف قيمة الفن الراقى ويفك شفرته.. لكننا للأسف أهملنا هذا كله.. وأصبحت متعة الشباب أن يستهلك آلاف الأطنان من الأطعمة الملوثة يوميًا لأن هذا هو مصدر المتعة الوحيد الذى يعرفه.. فلا فن ولا دين بالمعنى الروحى ولا قراءة بالمعنى المعرفى ولكن استهلاك يقود إلى مزيد من الاستهلاك ويورث الفقر والضيق والإحساس بالعجز كما يورث الدهون على الجسد والكسل فى العقل والتردى فى الروح المعنوية.. إننى أدعو الدولة المصرية إلى مزيد من الاستثمار فى صناعة الوجدان المصرى وإنعاش مقوماته والانتصار للقيمة على حساب المادة وللمعنى على حساب المبنى وللروح على حساب الجسد وللتدين المصرى الصوفى على التدين الشكلى الطقوسى الذى تم زرعه داخل العقل المصرى بالإجبار.. صناعة الوجدان هى أهم صناعة يمكن أن ترعاها الحكومة فى هذه الأيام.. والله أعلم.