الباحثة اللبنانية إليزابيث كساب: ليس بوسع الفِكر أن يجد حلولاً لظواهر تاريخية مُعقّدة (حوار)
تولي الباحثة اللبنانية إليزابيث سوزان كساب، اهتمامًا كبيرًا بالفكر العربي الحديث والفلسفة العربيّة، وهو ما ظهر جليًا في إنتاجها الثقافي منذ انطلاقه، فقد عملت منذ إصدار أول أعمالها "الفكر العربي المعاصر: دراسة في النقد الثقافي المقارن"، الصادر عام 2012 والحائز على جائزة الشيخ زايد للكتاب، على تقصي الخطابات الفكرية العربية في تعاطيها مع المشكلات الثقافية والسياسية بالتركيز على الخطابات الفكرية المُنبثقة من صدمة هزيمة 1967.
وشرعت "كساب"، من خلال كتابها الثاني "تنوير عشية الثورة" في دراسة المناقشات حول "التنوير" في العقدين السابقين لقيام الثورات العربية وتحليلها لتكشف عن المعركة المبكرة التي خاضها المثقفون المصريون في مواجهة فِكر الإسلام السياسي في مقابل تركُز النقاشات حول التنوير في سوريا حول الفساد السياسي وأثره على تردي الأوضاع كافة.
"الدستور" كان له هذا الحوار مع الكاتبة والباحثة اللبنانية، تحدثت خلاله حول عددٍ من القضايا التي أثارتها الباحثة في كتاباتها حول الفكر العربي وقضاياه وانشغالاته الماضي منها والراهن، وتناولت أيضًا، مشروع دراسة قضايا الفكر العربي عبر الفنون البصرية، الذي شرعت فيه أخيرًا، من أبعاد فكرية مغايرة.
إن نظرنا إلى تاريخ الفكر العربي من منظور ما بعد الاستعمار، هل يمكننا القول إن قرونًا من حكم عثماني ثم استعمار دام عقودًا في البلدان العربية هما سبب كل الأزمات الفكرية والإخفاقات التالية التي عجز الفكر العربي عن أن يجد لها مخرجًا؟
-لا أُحبذ هذه التفاسير الغارقة في التاريخ. أعتقد بأن ثمة ظروفًا وسياقات تواكب هذا الفكر وهي سياقات راهنة أكثر. صحيح أن الفترة العثمانية لم تشهد ازدهارًا ملحوظًا في المناطق العربية لكنها فترة طويلة ولم يكن الوضع هو نفسه في كل الدول العربية. في كتاباتي، أعود إلى تاريخ القرن الماضي وأبحث عن حيثيات هذا التراجع وارتباطه بالتخبط الذي يخلقه كل نظام، ويهمني بصورة خاصة ما حدث بعد الاستقلال من الاستعمار، لا سيما وأنها لم تكن استقلالات كاملة، إذ بقيت التدخلات الخارجية موجودة، هذه الظروف هي التي أهتم بتحليل أثرها في السياق العربي. وعلى أية حال ليس بوسع الفكر بحد ذاته أن يجد حلولاً لظواهر تاريخية معقّدة ومركبة، ربما تقوم مساهمته الأولى في محاولة فهم تلك الظواهر.
برأيك.. لِم تأسّس فصل جذري، على مدار التاريخ العربي، بين تيارين أحدهما يتشبث بالتراث وآخر بالمعاصرة؟ وكيف أثّرت تلك الحالة لاحقًا في مآلات الثورات العربية؟
-أظن بأن هذا التنوع موجود بكل المجتمعات، لكن على الجانب الآخر، كانت هذه النقاشات مناسبة للحكومات قبل الثورات بغية إلهاء الشعوب عن تتبع سياساتها الكارثية، وهو ما ظهر بشكل واضح في تشجيع الإسلام الثقافي.
أما عن الوضع ما بعد الثورات، وفي ظل المآلات التي شهدها الإسلام السياسي، وما تشهده إيران حاليًا من انتفاضات ضد الحكم الإسلامي وجرائمه، سنجد أن الحاجة إلى المراجعة تتعزز بصورة أكبر مما سبق، وينشغل الشباب والباحثون بمحاولة فهم أسباب فشل الإسلاميين في مصر وتونس وأدائهم السيئ، ولكن نظل بحاجة ماسة لدراسات ميدانية بحقل الفكر العربي في سوسيولوجيا المعرفة لتقصي أثر الكتابات الفكرية على الناس، وحيثيات نشوء التيارات المختلفة والصدى الذي تتركه وكيفيه تغيُره أو تبدُله.
إن انتقلنا إلى العقد الثالث من الألفية الجديدة، أين يمكن أن نموضع كل هذا الإرث من الفكر العربي في الوقت الراهن؟ وهل ما زالت قضايا وانشغالات هذا الفكر بمراحله محل تساؤل؟ وما الإشكاليات المستحدثة به؟
-أظن بأن مرحلة 2010 شكلت منعطفًا جديدًا في تاريخ الفكر العربي مثلما كانت هزيمة يونيو 1967 منعطفًا قاد إلى أطروحات فكرية شتى تحاول تحليل أسباب الهزيمة ومحاولة مراجعة الذات. كان منعطف الهزيمة السلبي بالطبع واضحًا إذ دفع المفكرون للبحث عن الأسباب الثقافية والسياسية التي قادت إلى الهزيمة، فيما أرى أن منعطف 2010 كان إيجابيًا في مراحله الأولى، إذ أجّج الشعور بأن العرب جزء من العالم وليسوا خارج التاريخ.
اليوم، تعظُم الحاجة إلى فهم مآلات هذه الانتفاضات ودلالاتها الثقافية والسياسية، فضلًا عن احتلال موضوع العنف أكان العنف المبني على أسس دينية أو العنف القائم على البطش مُقدمة النقاشات والتحليلات، وهو ما لم يكن موجودًا من قبل بهذه الكثافة، بالإضافة إلى وجود اهتمام كبير بتوثيق الثورات ومآلاتها والاختلافات من بلد لأخرى.
اعتبرت أن إشكالية الذات هي المأزق الذي اعترض الخطابات الفكرية العربية منذ بداياتها.. أي معنى يمكن تحديده والوقوف عليه للذات العربية اليوم؟
-هذا سؤال محوري جدا، وهو يشغل ليس فقط العرب ولكن كل المجتمعات التي عاشت هيمنة ما في صورة احتلال أو تأثير أو استقواء من ثقافة أخرى. تتبعت في كتابي الأول خطابات فكرية من أفريقيا وجنوب أمريكا عقب التحرر من الاستعمار، وقارنت نقاشاتهم حول قضايا الهوية والأصالة مع النقاشات العربية، وهي مقارنة أثبتت أن هذه النقاشات ليست شأنًا خاصًا بالعرب دون غيرهم، وإنما هي قضية كل المجتمعات الهادفة للتخلص من الهيمنة.
الرغبة في العودة إلى الذات هي ردة فعل تبدو في البداية واضحة وبديهية جدًا، ولكن بالتعمق، ندرك أن الأمر أكثر تعقيدًا مما يبدو في ظاهره، ويقود إلى منزلق خطر هو الوقوع في نوع من الجوهرانية؛ أي الاعتقاد بوجود ذات ثابتة لا تتحرك ولا تتأثر بالتاريخ، وهذا غير موجود. البحث عن شيء صلب غير متحرك نرتكز عليه غير ممكن لأنه يعني الوجود خارج التاريخ وعدم التفاعل مع الواقع وتقييد الحرية.
تعلّمت كل المجتمعات من مراجعة خطاباتها هذا الأمر، ففي أفريقيا نجد المراجعات النقدية لفكرة اعتبار الزنوجة هي أساس طبيعة الأفارقة وإدراك أنها فكرة تفتقد للصواب وتحمل مخاطر جمة. المطلوب إذًا وعي الذات بكل خلفياتها وموروثاتها مع إدراك كامل للواقع وتفاعل معه، وليس التشبث بفكرة هوية خالصة ثابتة بما يعني الدخول في قالب محدد سلفًا.
اتجهت مؤخرا لقراءة الفكر العربي وتتبعه من منظور الفنون البصرية.. ما الذي تهدفين للوصول إليه عبر هذه القراءة؟ وما أبرز الاستبصارات التي توصلتِ إليها بخصوص تجليات الفكر العربي عبر الفنون البصرية؟
-ما دفعني لخوض غمار هذا المشروع الذي ما زال في بدايته، ما لاحظته من انشغال الفكر العربي بفهم الحداثة وتطوراتها وموجاتها؛ في العالم الثالث يكتسب الموضوع زخمًا خاصًا بسبب ترافق الحداثة مع الاستعمار والاقتصادات التابعة وغير ذلك من الظروف المحليّة. في ظل هذا الانشغال بقضية مثل الحداثة سنجد أن الكتابات التحليلية للفكر العربي تعطي زاوية محدودة لفهم القضية فيما تقصر عن استيعاب جوانب أخرى، ومن ثم فلاستيعاب هذه الجوانب نحتاج إلى توسيع نطاق الدراسة إلى ما يتجاوز الكتابات التحليلية. وقد لاحظت وجود إنتاج غزير بمجال الفنون البصرية ودراستها لا سيّما بالعقدين الأخيرين، وهو ما يُفيد في توسيع أفق فهم الحداثة.
في الكتابات التحليلية هناك دومًا أسئلة عن علاقة الحداثة بالتراث وأثرها على الهوية، فهناك إحساس دائم بوجود أزمة تخلقها الحداثة، ربما أسست الاعتبارات الأيدولوجية لانخراط المفكرين أكثر في نقاشات منفصلة عن الواقع. أما في مجال الفنون البصرية، نجد على سبيل المثال في تصميم أغلفة الكتب وملصقات السينما والملصقات السياسية عدم وجود تردد بشأن وجود الحداثة أو أسئلة حول إن كانت مطلوبة أم لا. ثمة إبداع يُعلن عن نفسه ويتطور بكل أريحية بدون شعور بأي تهديد للهوية، نجد مثلًا التفاتًا لتطوير الخط العربي، الذي هو جزء من التراث، ومع ذلك فالفنان يُبدع انطلاقًا من تراثه بكل أريحية، هذا الإبداع يكشف لنا وجهًا فكريًا آخر عبر تدفقه الحر غير المُكبّل بأسئلة أو أزمات.
تناولت في كتابك "تنوير عشية الثورة" النقاشات في مصر وسوريا حول التنوير بالعقدين السابقين على الثورات وأطلقت عليها "إنسانوية سياسية".. ما الذي تقصدينه من هذا؟
-يشير مفهوم التنوير بشكل واضح إلى فترة القرن الثامن عشر ويدل على جملة من الأفكار المعروفة، لكن ما أردت الوصول إليه هو مفهوم التنوير في السياق العربي؛ لم يكن الهدف هو السؤال عن تلقي الفكر العربي الحديث للتنوير الأوروبي لكنه بصورة ما كان مشروع إصغاء للنقاشات في مصر وسوريا حول التنوير ومحاولة فهم أبعادها وخصوصيتها. من خلاصة هذا الإصغاء جاء عنوان الإنسانوية السياسية باعتباره الأفضل تعبيرًا عن النقاشات حول التنوير في البلدين، إذ انخرط المفكرون في تبيان تأثيرغياب الحياة السياسية على المجتمع والاقتصاد والإنسان، وانطوت مطالبتهم بالتنوير على دعوة من خلال المشاركة السياسية لإعادة ترميم الإنسان ووقف تدميره وانتهاك حقوقه.
هل يعني هذا أن تلك النقاشات كان لها أثرًا في الحراك بالبلدين؟
-يمكن القول إن خطابات التنوير ليست واحدة خاصة في مصر، فهناك العلمانيون والإسلاميون والمستقلون، والعلمانيون أنفسهم منقسمون في توجهاتهم ومختلفون في أفكارهم، وهناك تفكيك لمختلف تلك الخطابات من قِبل مفكرين نقديين ومحاولة لكشف زيف بعضها في محاولتها لفرض هويات بعينها على الآخرين. أما في سوريا، هذا الاختلاف غير موجود بهذا الشكل، إذ لا يوجد سوى معارضة مُستقلة والدولة غير معنية بالخطابات التنويرية.
أطروحتي التي قدّمتها في الكتاب تُثبِت أن الإصغاء للأصوات النقدية في البلدين يكشف عن وجود صدى لأصوات هؤلاء المفكرين في العقدين السابقين للثورات في المطالب التي قامت من أجلها الثورات، هذا لا يعني أن الثورات هي نتيجة مباشرة لهذه الخطابات، ولكن ثمة انسجامًا في المطالب والتطلُعات بين الخطابات الفكرية والمطالب الشعبية.
ذكرتِ أن النقاشات حول التنوير في العقدين السابقين للثورات غاب عنها الاهتمام بقضايا الغرب والتراث.. ما دلالات هذا الغياب برأيك؟
-في إطار الخطابات المختلفة حول التنوير، تعاملت معظم الأوساط الأكاديمية مع الموضوع كما هو معتاد، أي بالنظر إلى ارتباطه كمفهوم بالغرب والإشكاليات التي ترتبط بوجود التنوير في البيئة العربية ومكانة التراث في ظل هذا المطلب، أرى أن هذا المنظور المنغمس في مناقشة قضية التنوير من منظور ثنائية الغرب والتراث يميّز بعض الأوساط الفكرية المنغلقة إلى حد بعيد على نفسها. مقابل هذا التركيز الأكاديمي على هذا المنظور، ثمة مفكرون، وهم من ركزت على دراسة خطاباتهم، كانوا أقرب للتفاعل مع الواقع والحديث عن الإنسان في تلك البلدان، الكتابة من منطلق الواقع تجعل المقاربات الفكرية أقلّ تمسكاً بتلك الثنائية وأكثر انفتاحاً للواقع ومؤثراته المحلية الراهنة.