النار واللى كابشها.. فى قضية مستشفى التبرعات
فى عام ٢٠٠١ اضطرتنى الظروف للتعامل مع أحد المستشفيات النوعية الذى لم يكن يوجد له بديل أو مثيل فى الجمهورية بحالها.. عن مستشفى أبوالريش للأطفال أتحدث.. قضيت خمسة أشهر كاملة أذهب إلى هناك.. وكعادة المصريين يصبح المترددون على مثل هذه الأماكن أهلًا وأصحابًا بعد يوم أو يومين.. ربما يبدأ الأمر بخناقة على الدور فى الطابور مثلًا ثم ينتهى الأمر إلى رحمة ومودة وسلامات ودعوات.
فى تلك الأشهر الخمسة عرفت بشرًا من كل أنحاء مصر.. دفعتهم الحاجة إلى المال من جهة وإلى الأطباء المهرة فى هذا المجال من ناحية أخرى- إلى هذا المكان.. من أسوان والبحيرة والإسكندرية.. ولكل طفل قادم من آخر نجوع مصر حكاية.. وللأطباء والممرضين داخل المستشفى حكايات أخرى طويلة.. المهم أننى وبالصدفة عرفت أن هذا المستشفى يقوم وبشكل كبير على التبرعات.. هالنى وقتها أن تتوقف جراحة مهمة وبالغة الخطورة لطفل لا يملك من أمره شيئًا على خمسة جنيهات وربما أقل، لأن طلبية معينة من مستلزمات الجراحة لم تأت فى موعدها.
يومها.. انهال أهالى المريض على المستشفى بالشوم كانت خناقة كبرى.. لقد كان الموعد شبه الأخير لهذه الجراحة الخطيرة لطفل يعانى من أمراض متشابكة فى القلب.. الأطباء موجودون والتمريض موجود.. وحجرة العمليات جاهزة لكن الجراحة لن تتم وسيتم تأجيلها مثلما تأجلت من قبل ثلاث مرات.. ساعتها انفجر والد الطفل وتحول إلى بركان ثائر ودشدش كل ما أمامه، حاول الأمن منعه.. لكن الأطباء الذين كانوا يعرفون أنه ينام أمام المستشفى مع عدد من مجامليه منذ ثلاثة أشهر كانوا متعاطفين معه ومع طفله وحالته استوعبوا شتائمه وثورته، وهذا ما دفعنى للسؤال.. الجميع كان يعرف ووزارة التعليم العالى التى كان يتولاها وقتها الوزير المحترم مفيد شهاب لم تكن تملك حلًا.. كانت المخصصات تأتى من وزارة المالية.. ولأنها لا تكفى يقوم المستشفى بالتصرف عن طريق أى تبرعات تصله.. ولأهمية المستشفى وعدم وجود بدائل له فى الأقاليم كان الضغط عليه شديدًا تحديدًا.
تصورت يومها أن الوزير سيجد حلًا.. وكان أن اتصلت به لأشرح له الأمر.. كان متفهمًا وحكى لى ما هو أكثر.. وبعد لحظات وجدت الجميع فى حالة سعادة.. سيتم إجراء الجراحة.. ظننت أن الوزير قد تدخل وأقنع زميله فى المالية بإرسال الأموال لشراء المستلزمات.. لكن الأمر لم يكن كذلك.. فتلك القصة تستلزم شهورًا دون شك.. كان ما حدث أن الإعلامية الشهيرة آمال فهمى دبرت المطلوب من مستلزمات عبر متابعى برنامجها.. وقد وصلت وبدأ العمل.
لا تتخيلوا دموع أهل الطفل.. ودموع الممرضات.. والأطباء أيضًا.. الجميع تحول إلى أهل لذلك الطفل- الذى لا أعرفه- فى لحظة واحدة.
منذ ذلك الحين وأنا أتابع حال مستشفيات مصر.. سواء كنت مدفوعًا إلى زيارتها لمواساة قريب أو زائر من أهلنا فى الصعيد.. خاصة أولئك الذين يترددون على معهد القلب فى إمبابة أو معهد ناصر.. وفى كل المرات كنت أسمع عن «الحاجة» إلى تبرعات عاجلة للتخلص من «طوابير الانتظار».. وبالذات فى الحالات الحرجة.
فى السنوات الأخيرة.. أصبح هناك أكثر من مستشفى فى الأقاليم.. لكن الأعداد التى تحتاج إلى مثل هذه العمليات لم تقل.. بنيت مستشفيات عدة من «التبرعات» وإعلاناتها الرمضانية لم تكن تتوقف حتى صارت مثاًلا للتندر.. تخلصت مصر فى وقت ما من «قوائم الانتظار».. بعد تدخل رئاسى وإطلاق مبادرة مهمة.. تحسنت الأحوال لكن الاحتياج إلى أهل الخير ظل موجودًا.
ولأن أهل الخير لا يحبون التحدث عما يفعلون من أجل الله.. لم نكن فى غالب المرات معنيين بالكتابة عن هؤلاء.. والكثيرون منهم لا يتوقفون عن المساعدة.. بل المبادرة فى أحيان كثيرة.. استمر ذلك حتى جاءت كورونا.. وقد أسهم أهل الخير كثيرًا فى إنقاذ الكثيرين عبر التبرع بأسطوانات الأكسجين والأدوية فى أماكن متعددة.. هذا ما شفته بعينى وكنت سعيدًا وأنا أشارك فيه.. لكن بعد الجائحة ثمة أمرًا قد تغير.. وبحكم علاقتى بعدد كبير من مديرى المستشفيات وبخاصة فى الصعيد عرفت أن حجم التبرعات يتناقص.. وكان غريبًا أن الجانب الأكبر الذى يأتى من أهلنا الذين يعملون فى الخارج فى الخليج بالذات هم أيضًا تناقصت تبرعاتهم.. وجاءت الأزمة الاقتصادية الأخيرة ليتراجع حجم هذه التبرعات بشكل غير مسبوق.
أعرف أن «اللى يعوزه البيت يحرم ع الجامع».. وأعرف أن كثيرين يؤلمهم أنهم لا يستطيعون أداء ما تعودوا عليه من «صدقات» بسبب تأثر أحوالهم الاقتصادية بشكل كبير.. لكننى أعرف أيضًا أن فى مصر من يملكون القدرة على التدخل العاجل والسريع.. والقدرة على المساهمة فى إبقاء هذه المستشفيات فى حالة العمل.. لأنها وببساطة لا تملك رفاهية أن تتوقف.
لقد كان طيبًا أن يقوم «شيكابالا» بعد إحرازه هدفه فى مباراة حرس الحدود برفع «تى شيرت» مكتوب عليه دعوة لإنقاذ أحد هذه المستشفيات.. وعسى أن يفعل مثله الكثيرون من نجومنا ونخبتنا.. فبعضنا لا يعرف.. نعم.. البعض ممن يملك القدرة على التبرع والمساهمة لا يعرف.. إن الأحوال الاقتصادية منذ حرب أوكرانيا وعقب جائحة كورونا ومع تقلبات الأسواق المالية.. دفعت الكثيرين إلى الإحجام عما كانوا يؤدونه من واجبات «مستورة» مما يهدد بوقف العمل فى ثلاثة أو أربعة مستشفيات كبرى تعالج مئات الآلاف من أهلنا.. وهنا نتحدث بالتحديد عن مستشفيات تعالج سرطان الأطفال والثدى والأورام.. وجميعها عمليات مكلفة جدًا، إضافة إلى أن التأخير فى العلاج يؤدى إلى كوارث، وهذه رفاهية لا تملكها هذه المستشفيات ولا أطقمها الطبية.
من جهة أخرى، أعتقد أن الأزهر الشريف.. والكنيسة المصرية ووزارة الأوقاف ستبادر إلى توجيه ما تستطيع توجيهه من موارد الزكاة بشكل عاجل واستثنائى إلى هذه المستشفيات الثلاثة.
مصر وأهلها يقدرون.. أعرف ذلك.. لكننى أفترض أن بعضنا لا يعرف.. وعسى ألا يستمر ذلك طويلًا.