«ريمينى».. ملحمة إنسانية متكاملة تتوج عروض البانوراما الأوروبية
فى دورتها الـ١٥، عرضت بانوراما الفيلم الأوروبى ٤٠ فيلمًا من ٢٠ دولة ما بين الروائى والتسجيلى فى ٨ أقسام متنوعة، منها أفلام استعادية لجودار فى قسمين.. قسم عنوانه «جودار الشاب» وقسم آخر عنوانه «جودار ما بعد ٦٨».. وضم كل قسم ٣ أفلام من أعمال جودار الخالدة.
وجاء ذلك فى عرض أوحد فازت به البانوراما هذا العام واستطاعت تمريره من أيادى الرقابة نظرًا لاحتوائه على مشاهد جريئة موظفة فى عمل ملحمى شديد العمق، يحمل دلالات فلسفية ورسائل غير مباشرة غاية فى الأهمية.
عرض الفيلم فى سينما «زاوية» والتى أصبحت وعن جدارة متنفسًا ورئة نطل من خلالها على أحدث إنتاجات السينما الأوروبية التى شاركت فى المهرجانات العالمية وحصد بعضها جوائز، و«ريمينى» كان أحد هذه الأفلام المهمة وهو فيلم نمساوى فرنسى ألمانى ناطق بالألمانية والإيطالية وعرض فى قسم خاص فى البانوراما يحمل عنوان «تقمص».
وقد فاز بمتعة وعمق المشاهدة من استطاع مشاهدة هذا الفيلم للمخرج النمساوى الكبير «يولريخ زايدل» وعمره الآن ٧٠ عامًا، وفاز فيلمه الأول dog days عام ٢٠٠١ بالجائزة الكبرى فى مهرجان فينيسيا، وفيلمه الملحمى الثانى والذى قدمه على ٣ أجزاء فى عام ٢٠١٢ وهو فيلم «بارادايس» بأجزائه الثلاثة وهى «بارادايس الحب» والذى تنافس على جائزة السعفة الذهبية فى مهرجان كان و«بارادايس الإيمان» وحصد جائزة لجنة التحكيم فى فينيسيا والجزء الأخير «بارادايس الأمل».
وعرض كذلك فى مهرجان برلين السينمائى الدولى، وقد أخرج المخرج النمساوى الكبير «زايدل» فيلمين هذا العام لبطلين شقيقين نراهما فى فيلم remini وقد اجتمعا عند رحيل أمهما وبعد دفنها ذهب أحد الشقيقين وهو بطل فيلم sparta المصاب بمرض البيدوفيليا لرومانيا لتدريس رياضة الجودو لأطفال ذكور فى إحدى المدارس، وأثار هذا الفيلم جدلًا واسعًا وأصبح فى مهب الريح بسبب اعتراض أولياء أمور الأطفال الذين ظهروا فى الفيلم بعد تعرضهم للتنمر وسط زملائهم فى المدرسة وبين أقاربهم وجيرانهم ورفع أولياء الأمور قضية لمنع عرض الفيلم لاحتوائه على مشاهد حميمية تجمع بين البطل «صاحب البيدوفيليا» وتلاميذه من الأطفال.
لذلك لم يتسن لنا مشاهدة فيلم «sparta» وشاهدنا فيلم «remini» الحاصل على جائزة «الفيبريسى» لأفضل فيلم فى مهرجان «باليك» والجائزة الكبرى لأفضل فيلم طويل لمهرجان «دياجونال» ورشح لجائزة الدب الذهبى فى مهرجان برلين، ولو قدمنا نبذة مختصرة عن الفيلم حتمًا سيكون ذلك الاختصار مخلًا.. فالمشاعر والرسائل التى أرسلها العمل لمتلقيه أعمق بكثير من أى نبذة كتبت عنه، ومن شاهده استمتع بمستويات عدة للتلقى، فبطل العمل هو المطرب الرومانسى «ريتشى برافا».
والذى لم تعد أغانيه العاطفية السبعينية تستهوى ذائقة الجيل الجديد، فذهب لمدينة ريمينى الشاطئية الإيطالية ليستعيد هنالك حلمه وأمجاده مع جيله وخصوصًا من سيدات هذا الجيل اللاتى ما زلن يتذكرنه ويتعلقن بأغانيه، ونظرًا لعبثية وبوهيمية الحياة التى يعيشها بطل العمل «ريتشى برافا» والتى أضاع فيها أمواله ولم يحسب للمستقبل أى حسابات.
اضطر بعد رحيل أمه ووضع أبيه فى دار للعجزة ورحيل شقيقة لرومانيا أن يؤجر بيت والدته ورحل للشاطئ الإيطالى كى يجنى بعض المال من حفلات محدودة لجمهوره من النساء المسنات فكان «ريتشى» هو متنفسهن الوحيد.. فبصوته ينتعشن وبعضهن يذهبن لما هو أبعد من ذلك فاقتنصن لحظات من المتعة الجسدية مع مطربهن المفضل والذى لم يمانع فى منحهن الحب بمقابل فامتهن إلى جانب الغناء مهنة يمتهنها بعض الرجال مع النساء المسنات أو اليائسات وتلك المهنة تعرف فى الغرب بمهنة «الجوجولو» وهكذا تنقل «ريتشى برافا» من حفلة لأخرى ومن سيدة لأخرى، وقضى لياليه فى حالة سكر دائم وكان شبه مشرد ينام خلسةً فى أماكن لا يملكها أو يدفع أجرتها وبعضها لا يصلح للمبيت.
وهكذا يقضى أيامه اليوم تلو الآخر وساعده صوته وذكاؤه الاجتماعى وخبراته الطويلة ولسانه المعسول من امتلاك مهارات خاصة فى مغازلة النساء لجنى المال منهن والذى يصرفه بالكامل على الخمر، وفجأة تظهر أمامه فتاة شقراء شابه حاول مغازلتها فى إحدى الليالى ثم لاحظنا ملاحقتها له لنكتشف أنها ابنته التى لا يعرف عنها شيئًا منذ أن كانت فى السادسة من عمرها.. فعرفته بنفسها وهى فى عمر الـ١٨ ولاحقته مع صديقها اللاجئ السورى التى تحمل جنينه فى أحشائها ولا يعمل فى البلاد، ولم نسمع صوته طيلة الفيلم فى دلالة لهامشيته فى حياتها وفى الحياة عمومًا وبالطبع عدم قدرته على التحدث بلغة البلد التى لجأ إليها.. كحال غالبية اللاجئين جاء الشاب ومعه شباب آخرون من سوريا ومعهم عوائلهم- التى لا يعولونها- بل ولا يعولون حتى أنفسهم وعاشوا جميعًا مع نسائهم وأطفالهم فى كارافان متنقل بصحبة الفتاة المراهقة التى انجذبت عاطفيًا وجسديًا للاجئ العاطل والمختلف عنها فى كل شىء.
وتلك سمة تمتاز بها غالبية دول أوروبا وخصوصًا النمسا وألمانيا والتى فتحت البلاد على مصراعيها لاستقبال اللاجئين بعد الحرب فى سوريا والترويج لأكذوبة «حلب تحترق» من تيارات الإسلام السياسى المسلح.. وامتلأت شوارع البلدين بشباب ملتح ونساء يضعن الحجاب، وكلهم يجهلون لغة وثقافة البلاد ولا يعملون فيها فقط يحصلون منها على المعونة المالية باسم حقوق الإنسان وبسبب عقدة هتلر التى يدفع الألمان والنمساويون الآن ثمنها الباهظ أضعافًا وأضعافًا ليثبتوا لأنفسهم وللعالم أن العنصرية التى كانت تحولت الآن للنقيض حتى صارت وتحولت لنوع من الانبطاح لأى مختلف ووافد حتى وإن كانت نشأته وثقافة البلد التى جاء إليها لا تناسبه ولا يحبها ولا يستطيع الاندماج فيها، وهذا ما ألمح وأشار إليه الفيلم بشكل غير مباشر ودون أى جمل حوارية أو خطب طنانة.. فالصورة ومشاهد الفيلم كانت كافية وشافية فأوحت لنا وأعطتنا تلك الانطباعات وعبَّرت عن هذه المعانى وأرسلت لنا بتلك الرسائل.
وبعد أن عثرت الفتاة على والدها البوهيمى الذى لم يقم بدور الأب تجاهها وهجرها وأمها وهى صغيرة طالبته بتعويضها عن سنين الهجر والحرمان بطريقة مادية بحتة.. فالفتاة طالبت أباها بالمال عوضًا عن غيابه وهجره لها وصار السبيل الوحيد للصفح عنه هو أن يتحول إلى Atm لها ويكون مجرد آلة تحصل منها على المال دون منحه أو السماح له بمنحها أى مشاعر! فما تريده الفتاة هو المال وليس أى شىء آخر سوى المال ولا ندرى إن كانت تلك الفكرة من وحى عقل وروح الابنة حقيقة أم من وحى صديقها وأبوالجنين الذى تحمله فى أحشائها؟
وفى واقع الأمر تأثير الشاب عليها كان واضحًا، فطاردت الفتاة أباها بصحبته فى كل مكان وعايرته على سكره الدائم وابتزته عاطفيًا فرضخ لذلك الابتزاز إرضاءً لابنته وتكفيرًا عن إحساسه بالذنب تجاهها فلبى لها كل ما طلبت، حتى عندما طلبت منه الركوع لها وطلب السماح، ركع الأب فعلًا لا مجازًا أمام ابنته كى تسامحه وترضى عنه ومع إلحاحها عليه ومطاردتها له باع كل ما يملك من مقتنيات بثمن بخس للإيطالى الذى يدير الملهى الليلى الذى يغنى فيه ريتشى فى شاطئ «ريمينى».
وسرق جواز سفر أبيه المسن كى يحصل به على بعض المال، وكما سرق ريتشى أباه واستولى على بيت أمه الراحلة حصلت ابنته على كل ما جنى من مال حصل هو عليه من الغناء أو من مضاجعته للمسنات، حتى اضطر مرة وبعد ضغط من ابنته وإلحاح ولوم لتصوير إحداهن- وهو يعتذر لها فى نفس اللحظة التى يصورها فيها ويسألها وهما فى حالة سكر تامة، إن كان «ريتشى» حقًا يستحق أن يحبه أحد، ثم يبتز زوجها الثرى بالفيديو المصور فدفع لريتشى الكثير وهذا الكثير منحه «ريتشى» كله للابنة، والتى بدورها أعطت كل المال الذى جناه أبوها لصاحبها اللاجئ العاطل ليعول نفسه وعائلته بمال أبيها! فرغم ما تعيبه الابنة على أبيها الذى لم ينفق عليها طوال سنين عمرها! ها هى تختار نموذجًا قد يكون أسوأ وبكثير من أبيها.. فعلى أقل تقدير أبيها يعمل فى مجال الغناء وحقق فيه بعض النجاحات، أما اللاجئ الذى يعيش عالة عليها وعلى مال أبيها ومال المعونة التى تقدم له من بلدها ليطعم أفراد أسرته التى يزيد عددها على العشرة أفراد كحال غالبية اللاجئين، وإن كان «ريتشى» قد قصر فى الإنفاق على طفلته فاللاجئ لن ينفق شيئًا لا على الابنة «زوجته» ولا على الطفل أو الطفلة التى ستضعها تلك الابنة بعد شهور، وهنا تكمن المفارقة والقدر الساخر الذى جعل الابنة تختار نموذجًا أسوأ من أبيها والذى أصبح ينفق الآن ليس فقط عليها بل على صديقها وعائلته وأصدقائه، بل وسينفق على حفيدته أو حفيده المرتقب من هذا اللاجئ! فأبوها السكير الذى هجرها على الأقل ما زال يعمل وهو فى هذا العمر لجنى المال وتكبد ويتكبد خلال مشوار حياته ما يتكبد ورغم ذلك أتى لها بالمال الذى طلبته لتصحح النهايات أخطاء البدايات.. وليس هذا فقط، فقد قررت الفتاة ومن أجل المزيد من التنكيل بالأب المنبطح أمامها لأنه يحبها ويشعر بالذنب تجاهها، أن تجعل جميع اللاجئين الذين تعرفهم وتتعاطف معهم باسم حقوق الإنسان ينتقلون كلهم للعيش فى البيت الذى ورثه أبيها عن أمه، وبالتالى احتلت الفتاة وحبيبها وأصدقاؤه وعائلته بيت أبيها «جدتها» وهى تعتقد وبالطبع أن ذلك حقها! بل حق هؤلاء اللاجئين فى مال أبيها! وجعلتهم يرثون معها بيت «جدتها» وصار ذلك الاحتلال وهذا الغزو لبيت الأب والجدة حقًا مكتسبًا مكنتهم منه الابنة المراهقة المؤمنة بحقوق اللاجئين فى العيش على المعونات فى بيت لا يملكونه، وبمال لم يجنوه من عملهم وهى أيضًا مثلهم لا تعمل.
وهكذا تتحقق الكارما فى الفيلم، فهجر الأب لابنته وأمه وأبيه جعل ابنته تقتص وتنتقم منه وتستحوذ على كل ما لديه لتمنحه طواعية للأغراب دون أن تطالبهم بالكد والسعى كما يكد أبوها ويعمل.. وأرى فى مشهد غزو واحتلال اللاجئين لبيت الأب والجدة وتعاطف الفتاة المراهقة وابتزازها لأبيها إسقاطًا على ما حدث فى أوروبا وتحديدًا النمسا وألمانيا من ابتزاز اللاجئين والإسلاميين للبلاد باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان واللجوء إليها والحصول على المعونات دون عمل أو كد، وبدلًا من أن يحدث التطويع والاندماج لهؤلاء فى المجتمع وثقافته ويصبحوا منتجين فيه ويعملوا لصالحه هم من استطاعوا تطويع وغسل عقل المراهقة التى غيبتها الشعارات الطنانة الخاصة بحقوق الإنسان وأن مال أبيها البوهيمى الحرام الذى ينفقه على الخمر حلال لهم، فهم الأولى به والأحق ورغم نقمة الفتاة على أبيها وأسلوب حياته تتقبل وهى مغمضة العينين نموذجًا لن يمنحها كأمها أى شىء ولن يمنح طفلها أيضًا أى شىء تمامًا كما فعل أبوها معها ومع أمها.. وها هى الكارما تتحقق ومن جديد لنتعاطف نحن ربما هذه المرة مع الأب البوهيمى السكير كما تعاطفت هى مع من لا يكدون ولا يعملون.
وجاءت مشاهد تجول اللاجئين فى بيت الأب «الجدة» التى ماتت وهى لا تعرف أنه سيحتل بيتها، فى يوم من الأيام عشرون لاجئًا ومعهم نساؤهم وأطفالهم يعبثون فى بيتها ويطهون طعامهم فيه ولا ينظفونه أو يحافظون على ترتيبه، فصار كالهنجر أو المعسكر وتحول بالفعل لمسكن شعبى أو عشوائى.. فمظاهر العشوائية شاهدناها على الشاشة فى حين كان البيت قبل قدومهم مليئًا بتاريخ العائلة وصورهم واللوحات والبيانو وكل مظاهر الحضارة التى امتهنت ليتحقق لهؤلاء- دون كد وباسم حقوق الإنسان- كل ما حلموا به بل وكل ما فاق أحلامهم!
وشاهدنا الأب المغلوب على أمره لينال رضا وصفح ابنته عنه وهو يتجول غريبًا فى بيته المحتل من هؤلاء الذى انتشروا فى كل شبر من البيت وليس بوسعه فعل شىء بل وليس بوسعه حتى التواصل معهم، فالإنجليزية لا يفهمونها وهكذا أصبح البيت معادلًا موضوعيًا أو نموذجًا مصغرًا- فى رأيى- لألمانيا والنمسا وأوروبا فى العموم بإيوائها للاجئين وإطعامهم وتقديم المعونات لهم.
وفى مشهد مضحك من فرط عبثيته نجد الأب وقد حل الصيف فى بيته- وتلك بالطبع إشارة لمرور الزمن والكثير من الوقت حتى جاء الصيف- والحال كما هو عليه وهؤلاء يمكثون فى «بيته وبيت أمه وأبيه» أى «بيت عائلته» فى فيننا.. وهو يطلب من هؤلاء الشباب أن ينظفوا مكانهم وقد افترشوا الأرض والحديقه وفقًا لثقافتهم المختلفة كل الاختلاف عن ثقافته وأبدى أيضًا دهشته واندهاشه وعدم استيعابه لمشهد النساء والأطفال فى مطبخه- الذى صار مطبخهم هم- وهم يفترشون أرضه ويطهون طعامهم فى أوانيه وهن يرتدين الحجاب فى عز الصيف ووسط حرارة الطهى فيقول لهن ويتساءل: لماذا تضعن غطاء للرأس رغم حرارة الجو وحرارة النار التى تطعى الطعام؟ فدرجة الحرارة الآن فى المطبخ ٤٠ درجة مئوية! وبالطبع لم تجب النساء لأنهن لا يفهمن لغته وبالطبع لن يستوعبن اندهاشه من ملبسهن المختلف تمامًا عن ثقافته وما تربى عليه أو اعتاده وشاهده فى عائلته.. فهذا ليس لباس أمه أو زوجته أو ابنته.. وبالطبع سيهب شخصًا غاضبًا الآن أو مجموعة أشخاص وينعتوا «ريتشى» بالعنصرية والتمييز.. وهو الذى لبى كل شىء طلب منه واحتل بيته من أناس لا يعرفهم ورغم ذلك عليه قبولهم وقبولهن «قبول الآخر».. وهذا جميل ولكن لماذا على «ريتشى برافا» أن يقبل فى بيته شبابًا لا يعمل وينفق هو على معيشتهم ومأكلهم وملبسهم وعوائلهم ونظافتهم ونظافة المكان من ماله الخاص؟ أليس ذلك أيضًا أمرًا جديرًا بالنظر إليه والتفكير فيه؟
ومن رسائل الفيلم الخفية أيضًا هو المقارنة بين الأجيال الثلاث لصالح الجيل القديم «جيل الأجداد والجدات» فهؤلاء كانوا هم الشىء الحقيقى والإنسانى فى العمل وقد وهنوا وكبروا فى العمر واعتنى بهم بعض أبنائهم ولم يفعل البعض الآخر ذات الشىء مثل ريتشى الذى قصر فى حق والديه المسنين، فسطا شباب أغراب على ورثه من أبيه وأمه.
ومن المشاهد المؤثرة حقًا فى العمل مشهد سيدة مسنة كانت على علاقة بريتشى وهى تعتنى بأمها المريضة وتدعى «ريمينى» على اسم المدينة الشاطئية الإيطالية التى تعيش هى فيها وترعى أمها العاجزة كليًا عن الحركة ولم تودعها دار العجزة بل عاشت معها فى غرفة واحدة يشقها باب واحد وكانت تحاول بين الحين والآخر اقتناص لحظات من السعادة لنفسها مع «ريتشى».
وهى بين نار الحرمان والعوز الجسدى والعاطفى ونار الخوف على أمها والرغبة فى الاعتناء بها طوال الوقت وكان ذلك يعكر عليها صفو استمتاعها بحياتها الطبيعية.. ونراها فى إحدى المرات تعتذر له لأنها لا تستطيع الاندماج وإكمال ما بدأوه فيقول لها ريتشى أن الخطأ دومًا هو خطأ الرجل لا المرأة حتى وإن فشلت معه عاطفيًا أو جسديًا بسبب تشتت ذهنها.. وهنا نرى ريتشى البوهيمى السكير متحضرًا فى نظرته للمرأة والحب والجنس فتلك هى قيم المجتمع المتحضر والمتمدين الذى لا يلوم المرأة ولا يصب غله عليها ولا يجعلها مذنبة أبدًا.. فالذنب هو ذنب الرجل دومًا لا ذنب المرأة وعندما تذهب الابنة باكية وترتمى فى أحضان أمها التى ترقد على فراش المرض ولا تستطيع الكلام أو فعل شىء.. تربو الأم العاجزة على كتف ابنتها وتواسيها لأنها تشعر بها وبمأساتها وتضحياتها وحياتها البائسة وقد تقدمت هى أيضًا فى العمر فتبادل الأم ابنتها نفس الحب الذى تتلقاه منها وتحتضن ابنتها والتى أصبحت أيضًا مسنة، وتبكى الابنة- التى لم تعد صغيرة- كالطفلة الصغيرة فى أحضان أمها.
فالفيلم يمتلئ بالمشاعر الفياضة والتفاصيل والحكايات الإنسانية ويخوض فى عوالم المسنين وعوالم النساء اللاتى كبرن ولكن ما زالت لديهن الرغبة فى الحياة واقتناص لحظات المتعة وهو حق مشروع للحيوان الذى يشبع احتياجاته وغرائزه فما بال الإنسان الذى له متطلبات وحقوق ينساها ولا يلتفت إليها أنصار حقوق الإنسان- بمعناها السياسى فقط- والتى يمنحها فقط وبمنتهى السخاء والكرم والأريحية للاجئين السياسيين دون أن يمنحها لبقية البشر رغم أن الكل فى حق الحياة سواء وتندرج الاحتياجات الإنسانية أيضًا تحت مسمى «حقوق الإنسان» والذى لا بد أن يتسع ليضم الجميع وأن يكون الفكر أكثر رحابة لاستيعاب الجميع دون الانصياع وراء المظلوميات التى يتشدق بها كثيرون وتدور جميعها فى فلك واحد لكنهم وفى حقيقة الأمر هم من يميزون هذا عن ذاك، ويرون أن للاجئ حقوقًا تتفوق على حقوق أهل البيت وأصحاب البلد، والذى صار أغلبهم من المسنين الآن ويعيشون الخريف الديموغرافى فى حين يأتى اللاجئون الشباب بعاداتهم المختلفة والتى تميل لإنجاب الكثير من الأطفال فتصبح الغلبة لهم بمرور الوقت وبسبب كثرتهم العددية.. فتعدادهم يتفوق مع الوقت على تعداد سكان البلاد الأصليين والذين يفقدون بمرور الوقت أيضًا تراثهم وماضيهم وثقافتهم وحضارتهم وينتهى الفيلم والأب والذى هو «جد الفتاة» ووالد «ريتشى برافا» وحيد حبيس فى غرفته فى دار العجزة، وهو يستمع لسمفونيته الراقية المفضلة التى تعبر عن ذائقة جيل الأجداد ويبكى الجد وحيدًا وهو يتذكر أمه «جدة ريتشى الابن» ويحن إليها وإلى ذكريات الماضى الجميل الذى لم يتبق منه شىء بعد أن فقد أمه وزوجته وهجره ابناه وحفيدته التى لا تسأل عنه وهو عاجز حزين وحيد ينتظر الموت.. فهو الماضى أما المستقبل فلحفيدته الساذجة الحامل من عاطل احتل البلاد والبيت وكل شىء لا ينتمى إليه وكان فى عهد ليس ببعيد ملكًا لأجدادها.
وهكذا كانت غالبية مشاهد الفيلم التى توصل لنا المعانى والمشاعر الرقيقة والعميقة حتى فى لحظات الصمت، لندرك أن حيواتنا ما هى إلا حلقات ودوائر ندور فيها وكما ندين ندان.. فما فعله «ريتشى» فُعل فيه وما تفعله الابنة اليوم بأبيها سيُفعل فيها ويضيع كل ما هو جميل وأصيل وإنسانى وسط تلك الحلقات المفرغة والدوائر التى يدور فيها كل واحد على حدة دون أن يقوم بواجباته تجاه غيره ودون أن يعتنى حقًا بالآخر خاصة عندما يتعلق الأمر بالمقربين ومن تربطنا بهم قرابة من الدرجة الأولى.. فتلك هى العلاقات الإنسانية الحقيقية التى لا تفصم وليست محل شك أو تساؤل، بل وتمثل- فى حقيقة الأمر- جل الإنسانيات وحقوق الإنسان التى يدعيها البعض ولا يطبقها فى حياته الشخصية كما فعلت ابنه «ريتشى برافا».