قراءة ألمانية مهمة للنظام العالمى الجديد «1»
ليس هناك أهم من تقديم المستشار الألمانى أولاف شولتس، بنفسه رؤية ألمانيا لما أسماه «تحول جذرى» فى النظام العالمى، كى يرسخ فى يقيننا بأننا بالفعل نعاصر فى تلك الحقبة التأسيس لما طال انتظاره، من تبدلات وإعادة لرسم خطوط التمدد فى مساحات النفوذ والقدرة ما بين قوى مستقرة وأخرى صاعدة وبعض ممن تأثرت مكانته وتأرجحت، على وقع تفاعلات هذه المرحلة الزمنية الاستثنائية من عمر العالم. اختار المستشار الألمانى المطبوعة الأمريكية الشهيرة «فورين آفيرز»؛ ليقدم فيها بقلمه مقالًا مطولًا يعكس ما تراه ألمانيا فى عديد من القضايا الاستراتيجية، التى تمثل بجوار بعضها البعض أهم مكونات المشهد الدولى. وتكتسب أهمية القراءة المعمقة لتلك الرؤية بالنظر إلى نقطتين رئيسيتين، الأولى أن هذا قائد سياسى وضعته مقادير «توليه السلطة» فى صفوف المواجهة الأمامية مع التحولات المشار إليها، والثانية أنه يجلس على مقعد المستشارية الألمانية الذى لن يكون بعيدًا كثيرًا عن صناعة هذا التحول، بل والتأثير وتوجيهه ألمانيا وأوروبا وفق ما يراه محققًا لمصالحهما، وفى هذا يحظى بجدارة إضافية للتعمق فى سطوره وبين طياتها.
مباشرة يدخل المستشار الألمانى فى قراءة المشهد الراهن؛ حيث يبدأ مقاله بأن العالم يواجه تحولًا جذريًا تاريخيًا، إذ أنهى العدوان الروسى ضد أوكرانيا حقبة تاريخية. وقد نشأت قوى جديدة أو عادت إلى الظهور، بما فى ذلك الصين القوية اقتصاديًا والحازمة سياسيًا. فى هذا العالم الجديد «متعدد الأقطاب» تتنافس بلدان ونماذج حكومية مختلفة على السلطة والنفوذ، وبقدر ما يتعلق الأمر بها تبذل ألمانيا كل ما فى وسعها من أجل الدفاع عن نظام دولى، مستند إلى مبادئ ميثاق الأمم المتحدة. يشكل ذلك السبب الذى يجعل الألمان عازمين على أن يؤدوا دور «ضامنى الأمن الأوروبى»، على نحو ما يتوقع حلفاؤنا منا أن نكون، كذلك يعتزم الألمان أن يصبحوا بناة لجسور الوصل داخل الاتحاد الأوروبى، إضافة إلى كونهم مؤيدى الحلول المتعددة الأطراف للمشكلات العالمية، ويمثل ذلك «الطريقة الوحيدة» كى تتخطى ألمانيا بنجاح الخلافات الجيوسياسية فى عصرنا. هذا التحول الجذرى التاريخى يمتد إلى ما هو أبعد من الحرب فى أوكرانيا، ويتجاوز أيضًا مسألة الأمن الأوروبى، حيث ينتقل إلى السؤال الأساسى المطروح بواقعية علينا، كيف يمكننا، كأوروبيين وكاتحاد أوروبى، أن نبقى جهات فاعلة مستقلة فى عالم يتزايد توجهه نحو تعدد الأقطاب؟
يجيب أولاف شولتس عن أول سؤال استراتيجى جوهرى، بقوله إنه يمكن لألمانيا وأوروبا تقديم المساعدة فى الدفاع عن النظام الدولى، المستند إلى القواعد القانونية، دون الاستسلام للنظرة المتشائمة بأن العالم محكوم عليه بالانقسام مرة أخرى إلى كتل متنافسة. حيث يضع تاريخ تجربة بلاده التى عانت الانقسام لدولتين، فى زمن الحرب الباردة، باعتبارها تجعل ألمانيا تقدر بدقة مخاطر اندلاع حرب باردة جديدة. وقد استخدم تعبير «الستار الحديدى» فى الإشارة إلى ما فصل بين الغرب وبين الاتحاد السوفيتى ودول الكتلة الاشتراكية، فى الحرب الباردة. ويرى أن فى تلك الفترة ساهمت التكنولوجيا وتطوراتها فى خلق مستوى غير مسبوق من الاتصال والتعاون، أدى لنمو التجارة الدولية، وسلاسل القيمة والإنتاج المنتشرة عالميًا، والتبادلات للموارد البشرية والمعرفة عبر الحدود، توج بانتشال أكثر من مليار شخص من براثن الفقر المدقع. وقدم المستشار اعترافًا بشفافية رجل الدولة، أنه بعد حربين عالميتين مدمرتين وقدر كبير من المعاناة، «تسببت بلادى فى جزء كبير منها»، سيطر التوتر والمواجهة لفترة تتخطى أربعة عقود فى ظل إبادة نووية محتملة، لكن مع حلول تسعينيات القرن العشرين، بدا أن نظامًا عالميًا أكثر صمودًا قد ترسخ أخيرًا.
وهو مستمر فى وضع إشارات على المحطات التاريخية القريبة التى عبرتها أوروبا، ذكر شولتس أن فى تلك الحقبة الجديدة، بدا ممكنًا أن تصبح روسيا شريكًا للغرب بدلًا من العدو الذى كان عليه الاتحاد السوفيتى. نتيجة لذلك؛ قلصت معظم الدول الأوروبية جيوشها وخفضت ميزانياتها الدفاعية. بالنسبة إلى ألمانيا كان المنطق بسيطًا، فلماذا نحافظ على قوة دفاع كبيرة قوامها حوالى «٥٠٠ ألف» جندى، فى حين يبدو أن جميع جيراننا أصدقاء أو شركاء محتملون؟ إذ فتح سقوط الستار الحديدى وبروز اقتصاد عالمى بدا أنه الأكثر تكاملًا من أى وقت مضى، فرصًا وأسواقًا جديدة، لا سيما فى بلدان الكتلة الشرقية السابقة وكذلك فى بلدان أخرى ذات اقتصادات ناشئة، خصوصًا الصين. كما أثبتت روسيا أيضًا بمواردها الهائلة من الطاقة والمواد الخام الأخرى، أنها مورد موثوق به، وبدا من المعقول توسيع تلك الشراكة الواعدة فى وقت السلم. لكن فى تلك المحطة التاريخية يقدم المستشار تقديرًا بأن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، رغم معاصرته تفكك الاتحاد السوفيتى السابق وحلف وارسو، تعلم دروسًا تختلف بشكل حاد عن تلك التى تعلمها القادة فى برلين والعواصم الأوروبية الأخرى. حيث وقف عند وصف بوتين بأن ما جرى «أكبر كارثة جيوسياسية» فى القرن العشرين. كما يتصور أن الاضطراب الاقتصادى والسياسى فى أجزاء من منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتى فى تسعينيات القرن الماضى، أدى إلى تفاقم الشعور بالخسارة والألم الذى يربط كثيرًا من المواطنين الروس حتى يومنا هذا، بنهاية الاتحاد السوفيتى.
لهذا يرى أنه فى تلك البيئة بالتحديد بدأت الطموحات الروسية الاستبدادية فى الظهور من جديد. فى عام ٢٠٠٧ ألقى بوتين خطابًا عدوانيًا فى «مؤتمر ميونيخ للأمن»، مستهزئًا بالنظام الدولى باعتباره مجرد أداة للهيمنة الأمريكية. فى العام التالى، شنت روسيا حربًا على جورجيا. فى عام ٢٠١٤، احتلت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها، وأرسلت قواتها إلى منطقة «الدونباس» شرق أوكرانيا، فى انتهاك مباشر للقانون الدولى والتزاماتها الخاصة بمعاهدة موسكو، التى تعهدت روسيا فيها بخفض التسلح النووى وتطبيع العلاقات مع أوروبا، خصوصًا ألمانيا. فى السنوات التالية عمل الكرملين على تقويض معاهدات الحد من التسلح وتوسيع قدراته العسكرية، وتسميم المعارضين الروس وقتلهم، وقمع المجتمع المدنى، وتنفيذ تدخل عسكرى من أجل دعم نظام الأسد فى سوريا. خطوة تلو الأخرى، اختارت روسيا بوتين طريقًا أبعدها من أوروبا ومن نظام تعاونى سلمى.
هذا الجزء وضعه المستشار الألمانى كقراءة وتوصيف لما جرى خلال الفترة ذات الارتباط بالمشهد الراهن، فى الأجزاء التالية من المقال نتناول ما يراه قد حدث من تفاعلات وتحولات دفعت إلى «التحول الجذرى» الذى اختاره عنوانًا لمقالته المثيرة.