ما بين كأس العالم والقاهرة الوثائقية أسباب جديدة للفرح!!
للوهلة الأولى يعتقد البعض منا وهو يشاهد هذه الفرحة الهيستيرية لدى الشباب العربى من المحيط إلى الخليج بصعود فريق المغرب للمربع الذهبى فى بطولة كأس العالم.. أن شيئًا قد تغير.. أن جيلًا جديدًا تشكل فجأة وأزاح الغبار عن «جثة الحلم العربى» فعاد صحيحًا مُعافى، وعادت لياليه بيضاء من غير سوء.
المشهد فى شوارع القاهرة كما هو فى أقطار عربية أخرى يدفعك للتفكير وللسؤال: هل أفسدت «الكرة» كل تلك الخطط والمناورات والمليارات التى أنفقوها لطمس هذه الحقيقة.. أم أن ذاكرة الحلم العربى كانت تحتاج فقط لأمل تتشبث به مجددًا، وقد وجدته بين أقدام أشبال الركراكى؟!
قبل نهاية القرن الماضى لسنوات قليلة.. أوجعنا الشاعر العربى الكبير الراحل محمد الماغوط بقصة فيلمه المدهش «الحدود».. تلك الحكاية التى رسمها «دريد لحام» بحرفية شديدة ليضغط على أعصاب كل الشعوب العربية، ويذكّرهم بأن تلك الحدود التى رسمها الاستعمار أصبحت واقعًا بغيضًا يجب ألا يستمر.. نجح الفيلم الذى شاركت فى بطولته السورية رغدة على كل المستويات، إلا أنه- ولأنه مجرد فيلم- لم ينجح فى إحياء ذلك الحلم الذى اعتبره البعض منا فى وقت ما وهمًا؛ لدرجة أن اتهم صغارهم الرئيس الراحل عبدالناصر بأنه كان يجرى وراء سراب.. الأمر الذى دفع كاتبًا قوميًا كبيرًا مثل أسامة أنور عكاشة لأن يتبنى مع آخرين فكرة «القومية المصرية».
وقتها أيضًا أبكانا الشاعر مدحت العدل مع الموسيقار حلمى بكر وحميد الشاعرى وعدد من نجوم الغناء، أبرزهم ذكرى وأصالة والحلو وأنغام وعبدالله الرويشد وكاظم الساهر وصابر الرباعى بذلك النشيد المفاجئ «الحلم العربى»، أذكر وقتها أنه وبعد تصويره بطريقة الفيديو كليب تم طرحه فى «شرايط كاسيت»، وأقبل عليها المصريون بشكل يفوق الوصف مما دفع البعض من أصحاب السبوبة لتكرار الأمر واستنساخه فى أعمال تالية لم تحقق النجاح نفسه.
وظل «الحلم العربى» أو بمعنى أدق استعادته مجرد «أغنية وفيلم».. ومع توالى الانكسارات بعد احتلال العراق وتفكيكه ثم انقسام السودان.. وما تلا ذلك من «ربيع مسموم» أجهز على اليمن وسوريا- لا تزال تقاوم- وليبيا.. وما زالت تداعياته فى بلدان أخرى.
بعد ذلك «السواد» ظن البعض منا.. أن الكلام عن الوجود العربى نكتة يجب ألا نرددها، لكن يبدو أن مقولة عمنا نجيب محفوظ «آفة حارتنا النسيان».. ليست دقيقة.. ويجب أن نضيف إليها «إلى حين».
هذا الجيل الجديد الذى أتابعه على المقاهى وفى صفحات السوشيال، والذى وجد ضالته وحلمه فى أقدام لاعبى الفرق العربية فى هذه البطولة، وذلك العلم الفلسطينى الذى سيطر على مدرجات معظم الملاعب.. كل ذلك أصاب من خططوا لدفن العرب وقضيتهم وأحلامهم بالإحباط واليأس والجنون.. وعساكم تراجعوا التقارير الواردة من «تل أبيب ومدن غربية أخرى لتتأكدوا من ذلك».
وفيما يحدث ذلك.. شعرت بفرح شديد وأنا أستعيد كلمة العراق.. فى رسائلى من زملاء أعزاء سافروا ليشاركوا فى أحد معارض الكتاب.. نعم بغداد تعود مجددًا من حيث أرادوا لها أن تنتهى.. وها هى القاهرة وفى لحظة فارقة وعبر «الشركة المتحدة» تقرر إطلاق قناتها الوثائقية برئاسة الزميل المبدع شريف سعيد.. ليس هذا فقط، بل تدشين قطاع للوثائقيات يرأسه الزميل أحمد الدرينى.
الهدف واضح ولا يحتاج إلى شرح أو تفسير.. نحن فى حاجة ماسة ومنذ سنوات إلى استعادة ذاكرتنا فى مواجهة من يريد طمس هذه الذاكرة.. نحن فى حاجة شديدة إلى «تلميع وترويج وثائقنا» فى الوقت الذى يسعى فيه البعض إلى تزويرها وتشويهها.. تاريخيًا نحن فى أشد الحاجة إليه الآن وليس غدًا.. هذه ليست رفاهية، ولا هو مجرد إنتاج إعلامى ينقصنا.. ولم نكن نستطيع التصدى له فى وقت سابق.. ليس الفقر فى الإمكانات البشرية ولكن عدم وجود الإرادة والإمكانات المالية الكبيرة التى يحتاجها هذا النوع من العمل.
مصر.. شاء من شاء وأبى من أبى تملك أكبر مكتبة وثقائقية مفتوحة.. ليس فى الشرق الأوسط فقط.. ولكن فى العالم كله.. وأزمتنا كانت غياب «التسجيل والتوثيق».. وهذه القناة أعتقد أنها تجىء فى وقتها تمامًا.. فى لحظة يتغير فيها العالم.. لكن أحلامنا نحن لم تتغير ربما هناك سبب شخصى يدفعنى للفرح.. فلقد كنت ولا أزال أحد المهووسين بقضية التوثيق.. وقد أنفقت من عمرى عشر سنوات تقريبًا أحاول أن أستعيد ذاكرتى عبر سبعة كتب متتالية توثق- فقط- للغناء فى بلادى فى مائة عام فقط.. كل شىء فى هذه البلاد يحتاج إلى أن نوثقه.. ما كان.. وما نصنعه الآن أيضًا.. وقد حدث أن جربنا ذلك فى توثيق بعض ما جرى فى السنوات الأخيرة سواء من خلال الدراما.. أو الأفلام الوثائقية المباشرة.
لقد أضاع نظام التعليم فى بلادنا العربية فى المائة عام الأخيرة الكثير مما أنجزته هذه الأمة «لكن يبدو أن الأجيال الجديدة التى حرك مشاعرها العربية- بعض الانتصارات الصغيرة فى عالم الكرة ووحّدتها- تحتاج منا إلى ذلك الجهد.. وإلى ذلك التفكير.
هذه القناة.. وأشياء أخرى من بينها تطوير القاهرة القديمة والمتاحف والأهرامات قذائف موجهة للذاكرة الخربة.. نحن نستعيد ذاكرتنا.. وهذا هو الفرح الأكبر.. فأوطان بلا ذاكرة.. لا طريق لتمضى فيه.. ولا مستقبل ينتظرها.