وثائقية المتحدة
يومًا بعد يوم تتضح استراتيجية «المتحدة للإعلام» فى تقديم خدمة إعلامية ثقيلة، تعمل على صياغة الوعى العام، والحفر فى جذور العقل الجمعى، وصياغة الوجدان الوطنى العام، وهى استراتيجية عمل مختلفة عن الدعاية السياسية المباشرة، أو هجاء الخصوم، أو ممارسة الدعاية السوداء ضد المناوئين.. إلى غير ذلك من الممارسات المختلفة التى كنا نراها بين الحين والآخر، قبل يناير ٢٠١١ وبعد يناير ٢٠١١ وهى من وجهة نظرى الخاصة.. كانت تضر أكثر مما تنفع.. وتساهم فى إثارة التعاطف مع بعض المشبوهين.. لأن من يهاجمونهم لم يكونوا أكثر مصداقية وبعدًا عن الشبهات منهم من ناحية.. ولأن المصريين لهم طبيعة أخلاقية ترفض الفجر فى الخصومة والمساس بالأعراض من جهة أخرى.. ومن هذه الزاوية تحديدًا ارتقت «المتحدة» بأخلاق الإعلام المعبر عن الدولة.. وقدمت نوعًا من الإعلام المحافظ أخلاقيًا ومهنيًا والمترفع عن شخصنة القضايا السياسية أو الهجوم الشخصى، سواء على الأشخاص أو على الرموز السياسية للدول التى تتعارض سياساتها مع المصالح أو السياسات المصرية.. فى سبيل تطبيق هذا الكود المهنى والأخلاقى الذى يستعيد تقاليد الإعلام المصرى فى الستينيات والسبعينيات ويترفع به عن الممارسات التى انحدر إليها البعض وأساءوا بها إلى أنفسهم أو ما حاولوا خدمته والدفاع عنه.. فى سبيل هذا تمت إتاحة الفرصة لأعداد كبيرة من الكوادر الإعلامية الشابة والمثقفة فى إطار سياسة واسعة لتمكين الشباب فى جميع المجالات، وإغلاق الباب أمام الاتجار بقضايا الشباب أو استقطابهم من جانب الجماعة الإرهابية أو بعض منظمات التغيير الغربية التى تبحث دومًا عن وكلاء لها فى مصر.. والحقيقة أن هذه السياسة الذكية وذات النظر الواسع قد أثمرت بشكل إيجابى للغاية وأدت بعد سنوات من التدريب والتعليم وإتاحة الفرص للممارسة لوجود تجارب مهمة وخبرات تراكمية لم تكن موجودة فى الإعلام المصرى من قبل والذى سادت فيه منذ عام ٢٠٠٠ موجة تجارية تميل للإثارة والمعالجات الرخيصة والمتعجلة.. وكانت الأزمة أن القنوات المصرية الخاصة قد ولدت وفى ذهنها نموذج لقناة عربية إخبارية اعتمدت على مضمون شعبوى يلعب على العاطفة القومية والدينية ويمارس المزايدة على كل الدول العربية عدا الدولة المالكة للقناة.. وبدلًا من أن تظهر القنوات الخاصة المصرية لمقاومة الأثر الضار لهذه القناة فإذا بها تقلدها وتزايد عليها وتنطلق فى موجات من التسخين اليومى والمعالجة غير الحكيمة لكثير من القضايا والمزايدة اللفظية على المسئولين والتى كانت تصب فى كثير من الأحيان للإهانة الشخصية والتجاوز.. وكانت الكارثة أن التليفزيون الرسمى لم يجد وسيلة لمنافسة هذه القنوات الخاصة إلا بتقليدها.. وتقديم نفس خلطتها واستقطاب بعض العاملين فيها، بدلًا من التفكير فى تقديم مفهوم مختلف للإعلام، كما كان الحال من قبل، وكانت النتيجة أن الجميع دون استثناء اختصر مفهوم الإعلام فى نوع واحد فقط من البرامج هو «التوك شو» الليلى.. وانطلق الجميع يزايدون على بعضهم البعض لجذب الإعلانات والمشاهدات فى سباق مزايدة لا ينتهى إلا ليبدأ.. وهو ما خلق حالة فوضى سوداوية.. تفاعلت مع حالة شيخوخة السلطة وقتها «قبل ٢٠١١» وأدت لشعورنا جميًعا بأن الأمور ليست بخير وأنه لا بد من التغيير.. وكان ما حدث بعد ذلك مما نعرف جميعًا.. والذى أثبتت الأيام أن الإخوان استغلوه للقفز على السلطة وبالتالى فقد أصبحت سلبياته أكثر من إيجابياته بكثير.. يختلف الأمر حاليًا فى نوع الإعلام المقدم.. سواء فى الدراما التى تهدف لتعميق الوعى، إما بالقضايا الوطنية المباشرة أو بالقيم الاجتماعية والأسرية.. أو فى القنوات العامة التى تقدم حزمة برامج متوازنة ومحافظة على تقاليد العمل الإعلامى أو عبر القنوات الإخبارية التى تنهى غياب مصر فى مجال القنوات التى تخاطب الوطن العربى كله من المحيط للخليج وتقدم الشأن العالمى من وجهة نظر المصالح الوطنية المصرية.. أو من زاوية الأفلام الوثائقية التى تخاطب المشاهدين الباحثين عن العمق والمعرفة والتى تستوعب كوادر إعلامية مصرية كانت فى الماضى تضطر للعمل فى قنوات خارج مصر تقدم هذا النوع الهام من المنتج الإعلامى الذى هو أقرب للصناعة الإعلامية الثقيلة، حيث يستدعى تقديم وثائقى واحد مؤثر قراءة عشرات الكتب والوثائق والتسجيل مع عشرات الضيوف.. ولا شك أن إطلاق الشركة المتحدة قناة خاصة بالوثائقيات هو عمل يستحق التحية لأنه أقرب ما يكون إلى تقديم الرواية المصرية للتاريخ.. بعد عقود طويلة من انفراد الآخرين بتقديم روايتهم للتاريخ استغلالًا لحالة انعدام الوزن التى انتابت الدولة المصرية بعد هزيمة يونيو القاسية والمروعة.. ولا شك أن إطلاق القناة يستدعى توجيه التحية للعقل المنظم الذى يقف وراء هذه الرؤية ويتابع تنفيذها بدأب وصبر جديرين بإثارة الإعجاب.. خطوة جيدة للأمام تتلوها خطوات أخرى بإذن الله يتم بها استكمال منظومة الإعلام المصرى.