العرب والصين
على صفحتها الخاصة كتبت الأستاذة فريدة الشوباشى أن نظامًا عالميًا جديدًا سيتشكل بعد القمة العربية الصينية فى الرياض، أنا أتفق مع الأستاذة فريدة وأختلف معها أيضًا.. سبب الخلاف أننى أعتقد أن النظام العالمى الجديد يتشكل بالفعل منذ ما قبل قمة الرياض بسنوات وأنه سيظل يتشكل بعدها بسنوات.. الأسباب متعددة ومركبة، لكن أهمها أخطاء الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ بداية القرن وحتى الآن، وثانيها عدم شعبية بعض الإدارات فى الغرب وإصابتها بما يشبه تصلب شرايين سياسى ونوع من عدم الواقعية السياسية ضاعف منه تسيد تيارات الصوابية السياسية التى باتت تتطرف فى فرض ثقافات لا تناسب شعوب العالم المختلفة وكأن الغرب يريد أن يختصر ثقافات العالم كله فى ثقافته، وأخلاق العالم كله فى أخلاقه، وكأنه يريد أن تركب شعوب العالم آلة الزمن لتعيش فى زمنه، وترى العالم من منظوره، وكان أن بالغت تيارات الصوابية السياسية من تطرفها وتمكنت من بعض مراكز القرار بشكل جعلها تفرض أفكارًا منافية لمعتقدات معظم شعوب العالم، فبالنسبة للمثلية الجنسية لم يعد الأمر قاصرًا على المطالبة بحماية المثليين من الاضطهاد أو العقاب فى دول العالم المختلفة، بل تخطى الأمر ذلك بسنوات ضوئية فباتت بعض الإدارات تسعى لنشر ثقافة المثلية بين الأطفال وتمكين المثليين من المناصب الهامة وتفضيلهم عن غيرهم إن تساوت الفرص، وكانت المشكلة أن باب التطرف بات مفتوحًا على مصراعيه لآفاق غير مسبوقة مما لا يتسع المجال لذكره ومما وحد شعوبًا كانت تظن أن ما يفرقها أكثر مما يجمعها، فإذا بها تكتشف العكس.. وإذا بقواعد اللعبة التى تم بناؤها فى السبعينيات تنهد رأسًا على عقب.. ففى ذلك الزمن كانت القوى المحافظة اجتماعيًا تحكم الغرب، وترفع راية العداء للمعسكر الشرقى وتتهمه بالإلحاد والبعد عن الدين وكانت فى سبيل هذا تتحالف مع القوى الدينية فى الشرق الأوسط وتدعمها وتمولها وتدخل معها فى حلف ضد الآخرين باعتبارهم معادين للدين.. وقد عبر هذا عن نفسه فى تحالف الغرب مع المتطرفين فى أفغانستان وغيرها من بلاد العالم المختلفة.. فضلًا عن علاقات وثيقة بالدول العربية ذات النظم الراسخة والمحافظة والتى كانت تخاف من خطر الشيوعية على الدين الذى تؤمن به وتضعه تاجًا فوق رأسها.. لكن الزمن دار دورته فإذا بدول مثل الصين وروسيا أقرب إلى العرب فى الموقف الأخلاقى من تيارات الصوابية المتحكمة فى دول الغرب الكبرى وأكثر حرصًا على تقاليدنا وثقافاتنا من تلك الدول التى كانت تدعى الخوف من الشيوعية على الدين، وتدعى أنها حليفة لشعوب الشرق المسلم.. فضلًا عن هذا فقد زادت علامات الاستفهام حول الفاتورة التى يدفعها العالم ثمنًا لقرارات خاطئة وغامضة فى الغرب.. فنحن حتى الآن لا نعرف ماهية فيروس كورونا الغامض الذى دفعنا ثمنًا غاليًا لانتشاره.. ولا نعرف جدوى الحرب الأوكرانية الروسية ولماذا تستمر رغم كل هذه المعاناة لشعوب العالم رغم أن المنطق يقول إن من أشعل النيران يجب أن يطفئها وإن من بدأ المأساة ينهيها على حد تعبير نزار قبانى الشهير.. ولا شك أن هذه الهواجس تضع مسئولية أخلاقية كبيرة على الدول الكبرى فى العالم وتفقدها الشرعية الأخلاقية للقيادة وإن لم تفقدها قوتها الاقتصادية والعسكرية.. يضاعف من هذا أن هذه الدول لا تفكر فى مد يد المساعدة للدول التى أضيرت من أزمة (كوفيد- أوكرانيا) الممتدة.. رغم أن أصابع الاتهام تحملها المسئولية بقوة عن الأزمة من أولها إلى آخرها الذى لا نعرف متى يأتى وما هو موعده.. رغم أن من يقود العالم عليه أن يخفف معاناة شعوبه لا أن يزيدها.. وأن يقودها للرخاء لا للمعاناة وللراحة لا للشقاء.. إن شعوبًا كثيرة فى العالم تشعر بأن العالم صار أكثر شقاءً تحت تحكم القوى الكبرى المهيمنة عليه وإن علينا أن نبدأ مرحلة جديدة لعل شقاءنا ومعاناتنا فيها يكون أقل.. وإلى جانب هذه العوامل المعنوية والأخلاقية فإن ثمة حقائق على الأرض أهمها تأكد قوة العملاق الصينى وفشل محاولات تحجيمه وكسره، وتأكيد الصين مكانتها كقوة ثانية اقتصادية فى العالم وتبنيها فلسفة إنتاجية تقوم على إنتاج بضائع أرخص من التى تنتجها سلاسل الاحتكارات الغربية بكثير وانتهاجها سياسة الشراكة فى التنمية مع الدول التى تكافح للخروج من هوة الفقر.. والحقيقة أن كل هذه العوامل المشتركة، فضلًا عن العوامل التى تخص كل بلد عربى على حدة، كانت خلفية ملائمة جدًا لقمة الزعماء العرب مع الرئيس الصينى، وربما كانت مصر من أولى الدول العربية التى أقامت علاقات عميقة للغاية مع الصين، والحقيقة أن ذلك قد بدأ منذ بداية بزوغ الصين كقوة اقتصادية كبرى وتعمق بعد تولى الرئيس السيسى وبدأ مشروع تحديث مصر، الذى ساهمت فيه الخبرة الصينية بقدر لا بأس به، يتفق وعمق علاقات البلدين، ولا يعنى هذا أن مصر ستضحى بعلاقاتها الاستراتيجية مع القوى الكبرى فى العالم، ولا أنها تختار بين هذا وذاك، بل إن الكثيرين يظنون أنه كلما توثقت العلاقة مع كلا القطبين كان هذا مناسبة لتعميقها مع الطرف الثانى ولمزيد من الحرص على هذا العمق.. وهو ما نحتاجه بقوة فى هذه المرحلة الهامة من عمر مصر والعالم.