حرب الطاقة وسلاح العقوبات بين روسيا والغرب
ما زالت الدول الغربية متصلبة فيما يخص قرار فرض حد أقصى لسعر برميل النفط الروسى عند سقف قدرته بـ«٦٠ دولارًا»، كما شمل هذا التصلب أيضًا حظرًا على بعض الأنواع. يأتى هذا فى إطار إجراءات جديدة تهدف إلى زيادة الضغط على موسكو بسبب حربها على أوكرانيا، على الأقل ظنًا من تلك الدول أن هذا الضغط الاقتصادى سيساعد فى تليين التصلب الروسى المقابل، الذى انعكس فى عدم استجابتها لإيقاف الحرب والعودة بالمشهد إلى ما قبل ٢٤ فبراير ٢٠٢٢.
ما يمكن فهمه من هذا القرار الذى اعتبر ساريًا من منتصف الأسبوع الجارى، أنه بمقتضاه لن يسمح لشركات الشحن فى كل دول الاتحاد الأوروبى، بنقل النفط الروسى إلا وفق ضوابط الالتزام ببيعه تحت «السقف السعرى» الذى حددته مجموعة السبع. كما تضمن أيضًا إشارة إلى عملية مراجعة ستتم على الحد الأقصى للسعر كل شهرين، بدءًا من منتصف يناير المقبل، وذلك لإبقاء النفط الروسى فى مستوى أقل من سعر السوق بنسبة ٥٪ على الأقل. وبالنظر إلى أن معظم شركات الشحن والتأمين الرئيسية فى العالم موجودة فى دول مجموعة السبع، لذلك سيكون من الصعب جدًا على روسيا بيع نفطها بسعر أعلى من الحد الأقصى المحدد سلفًا. وفى محاولة من تلك الدول أن تبدو على درجة من المرونة، حتى لا ينتقد هذا القرار أو يجرى خرقه من داخل المعسكر، وضعت بعضًا من التسهيلات التى رأت أنها تتجاوب مع واقع أسواق وتداول النفط بشكل عام. أهمها أنه فى حال تم تغيير الحد الأقصى لسعر النفط الروسى بعد آلية المراجعة الدورية، ستكون هناك فترة سماح مدتها «٩٠ يومًا» لضمان عدم احتجاز أى سفينة فى البحر تحمل نفطًا تم شراؤه بسعر يخالف ما تم تحديده، واعتبرت مراجعة الحد الأقصى للسعر آلية خاصة بالاتحاد الأوروبى، مما يجعل أى تغيير فى مستويات الأسعار يحتاج إلى موافقة دول الاتحاد الأوروبى بالإجماع «٢٧ دولة».
الجانب الروسى؛ وجد أن تحديد دول مجموعة السبع وأستراليا التى تشاركت معها لحد أقصى يقف عند حد ٦٠ دولارًا للنفط الروسى المنقول بحرًا، ليس بالقرار الذى يمكنه أن يمثل حالة ردع لموسكو فى حربها على أوكرانيا. بل جاء الرد سريعًا من نائب رئيس الوزراء والمسئول عن شئون الطاقة «ألكسندر نوفاك»، بأنه تقرر اعتبارًا من تاريخ سريان هذا القرار فى حال تطبيقه، تنفيذ حظر روسيا لبيع النفط إلى الدول التى ستحاول استخدام الحد الأقصى للسعر. لكن فى الواقع لن يقف الرد الروسى عند حد تقييد عملية بيع النفط، فالعديد من التقارير التى نشر أحدثها فى صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية تتحدث عما يسمى بـ«أسطول الظل»، الذى قامت روسيا بحشده فى هدوء خلال أشهر الصيف الماضى، عندما كشفت أجهزة استخباراتها عن أن قرارًا يخص تداول نفطها يجرى التداول والبحث بشأنه. لهذا قامت مبكرًا بحشد نحو «١٠٠ ناقلة» نفط قديمة لتشغيلها على خطوط ملاحية لنقل النفط الخام، منها ما كان يتم استخدامه بينها وبين إيران وفنزويلا وقت خضوعهما لعقوبات دولية. الاستخبارات الغربية التى تتبعت مكونات «أسطول الظل» الروسى فى المقابل استطاعت تحديد بعض تشكيلاته والذى منها شراء المشغلين الروس «٢٥ ناقلة نفط» عملاقة، قادرة كل منها على حمل أكثر من مليونى برميل. وأيضًا هناك صفقة نجحت موسكو فى إبرامها ضمت «٣٠ ناقلة» من طراز «سويز ماكس»، يمكن لكل واحدة منها حمل نحو مليون برميل نفط، فضلًا عن ناقلات أصغر قدرت بنحو «٥٠ ناقلة» من طراز «أفراماكس» يمكن للواحدة أن تنقل نحو ٧٥٠ ألف برميل خام.
الحظر وبعد إنفاذ هذا القرار، سيمثل ضربة إرباك قوية لسوق بيع وتداول النفط، خاصة وهو يضع شركات التأمين وإعادة التأمين فى المواجهة، باعتبار أن سقف الأسعار سيحظر على شركات مجموعة السبع بالخصوص، انخراطها فى إعادة التأمين أو تمويل تجارة النفط أو التعامل مع شحنات النفط الروسى، حتى وإن كانت وجهته إلى دولة ثالثة ما لم يتم الالتزام بالسقف السعرى «٦٠ دولارًا» أو أقل. وبالنظر إلى دور هذه الشركات المحورى والرئيسى فى هذا النشاط التجارى، فضلًا عن سهولة مراقبة نشاطات تلك الشركات المرتبطة بالبنوك الدولية، عبر آليات إفصاح وشفافية لا تمكنها بأى حال من التفكير فى أى تلاعب. لهذا يمكن تصور حجم ومدى هذا القرار، الذى بدأ التململ منه مبكرًا رغم استكمال حكومات الاتحاد الأوروبى مؤخرًا، إجراءات الموافقة الخطية على فرض حد أقصى لأسعار النفط الروسى المنقول بحرًا. فالأصوات الأوروبية المتحفظة عليه، تتداول فى الكواليس تحذيرات تشير إلى أن مجاراة الإدارة الأمريكية فى نهج معاقبة روسيا وحرمانها من أهم عائداتها، سيرتد بالضرورة على الأوروبيين وسيدفعون هم فاتورته الباهظة وحدهم.
خبراء هذه السوق المتشابكة، المرتبطة بأهم سلعة استراتيجية تتداخل مع عديد من النشاطات تبدأ من تأمين «التدفئة» فى فصل الشتاء، ولا تقف عند حد الإسهام الجوهرى فى نشاطات استراتيجية كبرى مثل الاستثمار الصناعى والزراعى. هؤلاء يرون تعليقًا على هذا القرار؛ أن فرض «السقف السعرى» سيتسبب تلقائيًا فى زعزعة استقرار أسواق الطاقة العالمية، وستكون انعكاساته السلبية ليست على الاقتصاد الروسى فقط، بل على اقتصادات منطقة اليورو بالدرجة الأولى، كون روسيا تقف فى موقع المنتج وليس المستهلك لتلك السلعة محل التقييد. فمنطقة اليورو كانت تتعامل مع النفط الروسى باعتباره يمثل لها ميزة سعرية، خاصة بسهولة المناولة التى يوفرها عامل الوقت والشحن الذى كان يسلك عبر البحر الأسود وبحر البلطيق أقصر الطرق إلى البلدان الأوروبية. يترتب على ذلك أن البحث عن البدائل سيحمل الخزائن الأوروبية المرهقة، مزيدًا من التكاليف إذا اقتصر الأمر على عامل النقل وحده، من منطقة الخليج العربى أو الأمريكتين كمثال جاهز على تعويض النقص المحتمل.
معركة تكسير عظام حقيقية، ستدور خلال فصل الشتاء الذى يمثل الفصل الثانى المتطور من فصول الحرب الروسية الأوكرانية، وهو مرشح بقوة أن يخيم بظلاله على توقعات مساراتها التى لا يزال يكتنفها غموض سقفها الزمنى المراوغ!