الحوار الوطني.. الطريق الثالث
بعد فشل الطريقين الأول والثاني صار من الضروري بل ومن الحتمي إيجاد طريق ثالث يشق لنفسه مجرى بعد أن قطع وأفسد البعض كلا الطريقين بمهارة قطاع الطرق!
الطريق الأول والذي عهدناه وألفاه طوال ٣٠ عامًا من حكم المخلوع الأسبق مبارك والذي أدى فساد من أحاط به وتكلس نظامه في آخر سنوات حكمة لثورة تعثرت فصححت في الثلاثين من يونيو.
والتأرجح بين الطريقين اللذان أثبتا فشلهما أدى لخلق طريق ثالث أوجد لنفسه مكانًا وموطىء قدم وأفرادًا قليلون لزامًا البناء بهم وعليهم لاستكمال المسير.
الطريق الأول كان طريق القبول بأي شيء وغض الطرف عن كل شيء، النقد البناء غير موجود في قاموس أنصار هذا الطريق.. فأنصاره خلقوا فقط للتصفيق والاحتفاء والاحتفال والتهليل.. فصوابية القرارات ليست محل شك والنظام يعرف جيدًا كيف يعتني بنفسه وبالغير.. فسقطت تلك الدولة المباركية وذلك النظام في ٢٠١١ وبسقوطها ظن أنصار الطريق الثاني أنهم هم من أسقطوها وأن سقوطها هو الحل (أي أن الهدم هو الحل) فصار شعارهم كشعار السيد "أبو الهدد" في فيلم الراقصة والطبال "من هد وجد".
وتبارى واجتهد أنصار هذا الطريق الثاني على هدم الدولة ومؤسساتها بدأب وحماسة منقطعة النظير فانحازوا فرحين لأعداء الدولة التاريخيين وجعلوا منهم رفقاء وأصدقاءً لهم وجعلوا من أنفسهم حلفاء وأولياء لهؤلاء! إعمالًا بالمنطق القبلي "عدو عدوي صديقي" وصارت الدولة عدواً وصار العدو صديقًا! وأوجد هؤلاء الأنصار الجدد للأعداء فلسفة فاسدة تبرر ما لا يبرر كالقول بأنه علينا عصر الليمون على أيادينا لنلوثها بعد ذلك بالحبر الفسفوري بإختيار العدو التاريخي (الإخوان المسلمين) لحكم البلاد علّ تأثير الليمون يطهر تلك الجماعة! وإن نكون مع "الإسلام السياسي" و"الدواعش" أحيانًا وضد الدولة دائمًا.
وهكذا تعامل أنصار الطريقين الأول والثاني مع الوطن ومواطنيه بوصفهم دمى خشبية في لعبة شطرنج ليفوز الفريق الأبيض على الأسود أو العكس تمامًا كما ظهرت إبان ثورة يناير جماعة أسمت نفسها بجماعة (البلاك بلوك) لتتصدى لها جماعة أخرى أسمت نفسها بالـ(وايت بلوك إسلام).
وصار كل طرف يشيطن الأخر ويظن أنه اللاعب الرئيسي في المساحة البيضاء ضد النقيض الأسود وكأن الوطن رقعة شطرنج أو حلبة صراع أو حفنة من تراب عفن كما قال المرشد وما إلى ذلك من ترهلات ومراهقة فكرية واستدلالات عقيمة وممارسات مخجلة لكيد العازول والثمن يدفعه المواطن مرتين.. مرة على يد أنصار الطريق الزاعق وتاره على يد الهدامين الأشاوس حتى وصل الأمر بالمواطن إلى الانحياز في الأغلب - ولو على استحياء - ضد من اعتبروهم مجانين أو مهاويس أو مراهقين وذلك على أفضل تقدير.. فاستعدى أنصار الطريق الثاني غالبية الشعب ضدهم بغباء وحماقة يندر أن نجد لها مثيلاً فوصلنا إلى حالة ميئوس منها فقدنا فيها الأمل في أي رشد قد يصدر عن أنصار الطريق الثاني.
إنها الراديكالية الفجة في أعمق صورها والتي كانت عنوانًا كبيرًا للمشهد وصار الشقاق هو سيد الموقف وتجمدت الحياة وضاقت حلقاتها على الجميع وسدت كل الأوردة حتى وصلنا للحظة الانفجار وما تلاها من تشظي ونزيف وإهدار.. فكان لزامًا الفكاك والتخلص من حالة التشظي تلك من جانب والجمود من جانب آخر والهروب لطريق ثالث قد نجد فيه الحل أو البديل أملاً في الحكم الرشيد.
فكان الطريق الثالث، هو الطريق الذي يتعامل مع الدولة "قطاعي" وليس "بالجملة" كما كان يفعل أنصار كلا الطريقين.. الأول الذي لا يراها تخطيء أبدًا ويناصرها ظالمة لنفسها وأهلها أو مظلومة.
والطريق الثاني الذي يراها مخطئة دومًا وبالضرورة وعلى سبيل الاحتياط أيضًا ولا يرى فيها أو منها خيرًا قط.
أما الطريق الثالث (طريق الحوار) على أرضية الوطن والمواطنة.. فيرى ما في الدولة من خير فيدعمه أو خطأ فيقدم النصيحة والحلول ويطرح البدائل وتتغير مواقفه - لا تتلون- وفقًا للمعطيات ووفقاً لكل مستجد على حدى وبالتالي ليس لديه موقف مسبق أو حاسم على الدوام لأنه يتفهم أولا ثم يناقش بغية الاصلاح والتطوير والتقدم للأمام.
الطريق الثالث يتبنى مواقف مختلفة وفقاً لكل مستجد وهذا الطريق هو الطريق الاصلاحي، "اللامتواطىء" و"اللامنبطح" والذي لا يرى الدولة عدو و لا يستعدي عليها الخارج وفي نفس الوقت هو طريق للبناء لا للهدم.. ولا يعمد ولا يسعد بتكسير "مقاديف الدولة" أو الشماتة فيها عند الشدائد ولا انكار ما تفعله إن فعلت خيرًا وتوجيهها لتصحح مسارها إن جنحت أو حادت عن المسار.
الطريق الثالث هو طريق الرشد هو طريق الحوار الذي نصل من خلاله للمبتغى وهذا المبتغى هو الحكم الرشيد، أمل الأمم والدول المتمدينة ولا سبيل للوصول إليه إلا بالحوار الوطني الرصين الهادىء والجاد، ولا سبيل للحكم الرشيد بدون الطريق الثالث والحوار البناء غير الزاعق والمرن والأكثر انفتاحًا على الأخر بدون نوايا مبيتة أو انطباعات مسبقة أو تربص فإن كثر وازداد عدد أتباع ذلك الطريق الرشيد وشكلوا للدولة ظهيرًا شعبيًا سلميًا يغنيها ويكفيها شر المنافقين ممن يضمرون لها ولأهلها السوء ويبتزون الكل بالترغيب تارة والترهيب تارة سنصل حتمًا لدولة رشيدة حكمها رشيد.
أما لنا بعد ثورتين وأثمان باهظة دفعت بقليل من هذا الرشد؟ والكثير من أنصاره ليكونوا العون الحقيقي للدولة وظهيرها المساند الرشيد، لا الشوكة التي تغرز في ظهرها وتدميه.
أهلا بالحوار الوطني وكل الآفاق المطروحة للتحليق بعيدًا عن الخلافات الصغيرة وافتعال القضايا والنفخ في الكير .