«النبى المفقود أخناتون».. دراسة تاريخية بنكهة أدبية عن «العائش فى الحقيقة»
انتهيت من قراءة كتاب «النبى المفقود أخناتون» للكاتب «د. شريف شعبان» فى طبعته الأولى، الصادرة عن «دار الرواق»، بعدد صفحات ٢٣٨ صفحة. «أخناتون» ملك شاب من ملوك الأسرة الثامنة عشرة لمصر القديمة. ملك شاب حكم مصر سبعة عشر عامًا، وأحدث بها فى سنوات حكمه القليلة تغييرًا جذريًا فى العقائد والتقاليد. لك أن تتخيل أن ذلك الشاب الهادئ، المتأمل، المسالم، ضعيف البنيان، استطاع أن يحرك ثورة دينية فجرت كل العقائد المتأصلة فى نفوس المصريين، ويواجه سلطة كهنة آمون، التى كانت بمثابة مراكز القوى، ويأمر بتوحيد الآلهة المتعددة فى الميثولوجيا المصرية، إلى إله واحد وهو آتون. ملك شاب ليس كمثل أجداده محاربًا، ولكنه مختلف الفكر، صاحب فلسفة غريبة عن زمنه وشعبه، عاش غريبًا ومات غريبًا، ولكنه كان عائشًا فى الحقيقة.
الحق يقال إن أخناتون له سحر خاص، ولكن ما زاد سحره هو قراءتى لذلك الكتاب «النبى المفقود أخناتون». فمنذ بدأت القراءة فى تاريخ مصر القديمة لم يصادفنى كتاب بمثل هذه الروعة، كتاب ينسيك فى كثير من فصوله أنك تقرأ دراسة، بل هو أقرب للرواية، دراسة تاريخية لكاتب بدرجة أديب.
ينقسم الكتاب إلى ٦ أجزاء، وداخل الأجزاء هناك ٢٤ فصلًا، يتنوع أسلوب الكاتب فى كل قسم عن الآخر، فنلاحظ أن هناك قسمًا يكتبه بطريقة تقريرية، وقسمًا يكتبه بطريقة روائية، وقسمًا بطريقة تحاكى الكتابة السينمائية، وكأنك تشاهد مشاهد وأحداثًا لا تقرأها. وبالطبع استخدم الكاتب اللغة العربية الفصحى مبسطة، فسهلت القراءة دون ملل، حتى ليشعرك بأنك لا تريد للكتاب أن ينتهى.
لم تكن البداية عند مولد أخناتون، أو حتى أبويه، كبداية متعارفة لتقديم شخصية معينة تدور حولها الدراسة. ولكنه ابتدأ منذ البداية حرفيًا. كانت البداية من عند سقنن رع وصراعه مع الهكسوس ومن بعده ولداه، كامس وأحمس، فى نظرة سريعة لأحوال مصر القديمة والتسلسل الزمنى، وتطورات شكل الحكم عبر الأزمان، وتطور الشخصية المصرية نفسها، فى معلومات فى غاية الأهمية وتكاد تكون جديدة على المتلقى. حتى نصل فى التسلسل بين الملوك والفراعنة إلى أمنحتب الثالث، والد أخناتون.
ويستعرض الكاتب تحول سياسة الحكم وتوجهات المجتمع المصرى فى عهده. ويتطرق لطريقة تربية أخناتون منذ البداية، والتى كانت حياة مرفهة بعيدًا عن جو الحروب والفروسية لأنه لم يكن فى البداية ولى العهد، ويعتقد الكاتب أن تلك التربية المنعمة بين الحريم كانت السبب فى ظهور شكله بهذا التكوين الأنثوى، وليس لسبب آخر كان انتشر باتهام أخناتون بالشذوذ، وهو الذى نفاه أيضًا الكاتب فى دراسته، وتلك الطبيعة المستكينة والحياة الهادئة، أعطت الفرصة لأخناتون كى يتأمل ويكون فلسفته الخاصة.
عند تولى أخناتون الحكم اختار لعاصمته الجديدة مكانًا نائيًا فى تل العمارنة. يشرح لنا الكاتب أن ثورة أخناتون وتجديده لم تكن ثورة دينية فحسب بل كانت ثورة شاملة حتى فى شكل الفن المصرى والمعمار. وذلك ظهر واضحًا فى الاختلاف الجوهرى والمفاجئ فى شكل المعابد والبنيان غير المسقوف.
وقد تبنى أخناتون من خلال معبوده الشمس فلسفة الحقيقة والوضوح وعدم التجمل، وذلك وضح جليًا فى تماثيل ورسومات تلك الحقبة، فظهر الملك بشكل بعيد تمامًا عن مثالية التجسيد لباقى الملوك قبله وبعده. ظهر طبيعيًا بجسده المترهل، وظهر فى الرسومات بشكل بشرى عادى يجلس ويتحرك ويداعب أطفاله. كما ظهرت زوجته «نفرتيتى» بتماثيل ورسومات بنفس طول زوجها وبشكل مختلف عن سياسة تصوير الملوك والملكات قديمًا.
لم يغفل الكاتب عن ذكر جميلة الجميلات الملكة «نفرتيتى»، حبيبة وزوجة أخناتون، وقصة حبهما المحفورة عبر التاريخ. وأفسح لها قسمًا خاصًا بها، وأسماه على ترجمة اسمها «الجميلة أتت» «نفرتيتى».
الكاتب فى هذا القسم أسهب فى الحديث عن تلك المرأة المحبة المخلصة المناضلة والتى كانت الداعمة الأولى لزوجها فعليًا، تقبلت كل المخاطر والتقلبات بسبب ثورة زوجها الخطيرة على المعبودات والديانات والتقاليد، وصنعت معه أسلوب حياة جديدًا فى ظل التوحيد تحت راية آتون، وقبلت الهجرة معه إلى أرض جديدة قاحلة بعيدة عن طيبة فرارًا بدينهم الجديد من أيدى كهنة آمون، التى أصبحت هوجاء باطشة، لدرجة محاولتهم اغتيال أخناتون لأكثر من مرة.
كما أثار الكاتب قضية رأس نفرتيتى المسروق واحتيال الغرب للاستيلاء على تلك التحفة الفنية الرائعة للملكة الجميلة، والتى وجدت فى ورشة نحات الملك فى تل العمارنة. وروى لنا كيفية اكتشافها وطريقة تهريبها واختفائها، والمطالبة المستمرة من الجهات المصرية عبر العصور لاسترداد رأس نفرتيتى.
يرد الكاتب على جميع الآراء والتكهنات الغريبة حول شخصية أخناتون، وينفى عنه كونه نبيًا أو حتى عاصر أحد الأنبياء بكثير من الأدلة والإثباتات. فدعوة أخناتون للتوحيد مختلفة كليًا عن عبادة التوحيد السماوى. وقد أسهب الكاتب فى شرح أسبابه لنفى تلك الادعاءات بالتفصيل، وتحدث عن كل نبى ارتبط اسمه بسيرة أخناتون. وحتى المسلسل الإيرانى «يوسف الصديق» أخذ حيزه فى الكتاب للرد على مغالطاته والإقحام الخاطئ لشخصية أخناتون فى سيرة نبى الله يوسف، عليه السلام.
يعرض الكاتب بشكل روائى قصة اكتشاف مومياء أخناتون، واستهانتهم بها نظرًا لدفنها فى مقبرة مغايرة للمقبرة التى أعدها لنفسه دون أى دليل يكشف عن شخصيته الحقيقية. تلك القصة صاغها الكاتب بحرفية تجعل المتلقى يعيش الأحداث بحواسه ومشاعره، ويشعر بالرثاء لنهاية هذا الملك الثائر الفيلسوف، الذى استحق لقبه «العائش فى الحقيقة».
وختامًا لهذا الكتاب الشائق جمع الكاتب كل ما كتب عن شخصية أخناتون فى الأدب الروائى والمسرحى وعرضها بنقد بسيط مع نبذة سريعة عن الأحداث. وركز فى حديثه على حلم المخرج الراحل «شادى عبدالسلام» فى عمل ملحمة أسطورية عن أخناتون، ذلك المشروع الضخم الذى عسره ضخامة الميزانية وعدم وجود جهات تمويلية، ثم توقف الحلم بوفاة المبدع شادى عبدالسلام.
كتاب «النبى المفقود أخناتون»، للكاتب الدكتور شريف شعبان، دراسة وافية جدًا لأخناتون تناولت كل جوانبه وردت على كل التساؤلات والهرطقات بأسلوب سهل ممتنع، يصل للقارئ العادى بكل سهولة، ويزيد معلوماته ثراء.