المنصورة الجديدة
يومًا بعد يوم تتضح ملامح تجربة التنمية التى بدأ فيها الرئيس السيسى منذ توليه الحكم وأطلق عليها عن حق «الجمهورية الجديدة» والحقيقة أن جوهر تجربة الرئيس السيسى هو صراع الحديث ضد القديم، وصراع الطموح ضد الرضا بالأمر الواقع، وصراع الأمل فى غد أفضل ضد الانهزام واليأس، وصراع الحلم ببلد كبير ضد النظرة الدونية التى ترى أن إبقاء الناس على قيد الحياة هو غاية المراد من رب العباد.. والحقيقة أن صعابًا كثيرة واجهت الرئيس السيسى وتغلب عليها جميعًا ليس منها فقط صراعه مع الجماعة الإرهابية ومن ساندها.. ولكن أنه جاء بعد عهود مختلفة تعطلت فيها مسيرة التنمية فى البلد إلا بالنذر اليسير.. فكثير من مشاريع العمران المصرى كان يجب أن نبدأ فيها منذ الستينيات.. لكن التحديات التى واجهتها مصر ومنها إفشال الوحدة مع سوريا، ثم التدخل ضد الوجود المصرى فى اليمن، ثم النكسة، ثم حرب التحرير، ثم عدم استقرار الوضع السياسى فيما تلى حرب أكتوبر عطلت مسيرة التنمية إلا بأقل القليل، ورغم أن الظروف كانت مواتية فى عهد الرئيس مبارك حيث لا حروب لمدة ثلاثين عامًا، تخللها إسقاط معظم ديون مصر عقب حرب الخليج الأولى.. إلا أنه تمت إضاعة الفرصة للانطلاق فى مخطط التعمير الكبير والذى كان الخبراء يطالبون به منذ الستينيات، فمخطط تطوير القاهرة تحدث عن كثير من ملامحه خبير تخطيط المدن العالمى سيد كريم منذ السبعينيات لكنه لم ينفذ سوى فى عهد الرئيس السيسى مع تعديلات تطلبها تغير الزمن.. نفس الأمر بالنسبة لمخطط تعمير الساحل الشمالى الذى طالب به الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين منذ عام ١٩٧١ ولم يتم تنفيذه بالشكل الصحيح سوى فى عهد الرئيس السيسى من خلال مدن مثل دمياط الجديدة والمنصورة الجديدة، التى تم افتتاحها بالأمس، ورشيد الجديدة وكل المدن التى تغطى ساحل مصر الشمالى من العريش حتى مرسى مطروح.. خلافًا لما يعتقده الكثير منا عن خطأ بأن «الساحل الشمالى» هو مجموعة القرى الصغيرة الممتدة من الإسكندرية حتى مارينا وما بعدها فى عدة كيلومترات وهى للأسف منطقة تم إفسادها بإنشاء قرى تتفاوت فى مستوياتها وتتسم بأنها مغلقة على أصحابها ومغلقة طوال الشتاء أيضًا.. وهو مفهوم مختلف تمامًا عن مفهوم التعمير الذى تتبناه الدولة حاليًا والذى يقوم على إنشاء مدن متكاملة تصلح للإقامة طوال العام وتضم أنشطة سياحية وتجارية وصناعية تجتذب استثمارات الداخل والخارج وتشكل متنفسًا ومتسعًا للأجيال الجديدة من المصريين الذين يزيدون بمعدل اثنين مليون مصرى كل عام وهو عدد سكان دول كاملة فى المنطقة العربية وغيرها والمعنى أننا نزيد بمقدار عدد سكان دولة كل عام!!
صراع التنمية فى عهد الرئيس السيسى ينطوى أيضًا على صراع بين فكرة النمو المخطط التى يتبناها الرئيس وفكرة النمو العشوائى التى سادت مصر منذ الثمانينيات والتى قامت على أن يوجد الناس حلولًا لمشاكلهم ولو بالمخالفة للقانون وأن تتظاهر الدولة أنها لا تراهم.. ومن أكبر الأمثلة على ذلك المبانى الأهلية القبيحة التى تنتصب على الدائرى وفى كثير من مناطق مصر.. حيث يتصدى الناس للبناء فى شوارع ضيقة وغير مخططة ولا تدخلها الشمس على قطع أراض صغيرة ومتباينة فى أحجامها دون الاستعانة بمهندس معمارى ودون دهان واجهات العمارات توفيرًا للنفقات، فتكون النتيجة أبنية قبيحة تشبه علب الكبريت.. تشوه الفضاء البصرى، ولا تؤدى الوظيفة الصحية للمسكن الذى يجب أن تدخله الشمس والتهوية بنسب معينة حتى لا تتأثر صحة ساكنيه وحالتهم النفسية من الزحام والكتمة والعتمة التى أصبحت سمة كثير من مساكن المصريين فى آخر ثلاثين عامًا.. ولم يكن هذا سوى بسبب انسحاب الدولة من وظيفة الإسكان إلا بأقل القليل وبما لا يكفى لمجاراة الزيادة السكانية والطلب على المساكن.. من حلقات صراع التنمية فى عهد الرئيس السيسى الصراع بين الإيمان بدور الدولة فى قيادة التنمية فى المجتمع وبين النظرة التى ترى أن الدولة يجب أن تنسحب من هذا الدور لحساب القطاع الخاص.. رغم أننا نرى محاولات جادة لدعم القطاع الخاص من خلال مبادرة «ابدأ» ومحاولات لإتاحة الفرصة لأجيال جديدة من المستثمرين وشباب الصناعة ورجال الأعمال لكسر حالة الاحتكار التى دامت سنوات طويلة من البعض، سواء فى مجالات الاقتصاد المختلفة أو الحديث باسم القطاع الخاص وادعاء تمثيله.. من أوجه الصراع أيضًا الصراع بين طريقة الرئيس فى توجيه الموارد للبناء والتعمير مع عدم الإخلال بحقوق الفئات الأولى بالرعاية وبين ما اعتاده البعض من توجيه الأموال نحو طرق عينية للدعم كانت تصل به لمن يستحق ولمن لا يستحق أيضًا وتتسبب فى عجز دائم فى الموازنة، وفى عدم وجود أى فوائض يمكن توجيهها لمشروعات التنمية اللازمة والضرورية وهو ما نتج عنه تأجيلها عامًا بعد عام وعقدًا بعد عقد وهو ما أثر ليس فقط على فرص مصر فى الانطلاق ولكن أيضًا على استمرارية بعض نواحى الحياة فيها وعلى استقرار الدولة نفسها.. إن أهم ما قيل فى حفل افتتاح مدينة المنصورة الجديدة، أمس، أن كل مخططات التعمير كانت موجودة فى أدراج الدولة المصرية وكانت تحتاج لعقل شجاع يتخذ القرار بتنفيذها ويدبر الموارد اللازمة لها ويشرف على عجلة العمل الجبارة اللازمة لإتمامها ويخوض الصراع مع أنصار القديم وقاصرى الفهم والمشككين لمجرد التشكيك وغير المستوعبين لما تحتاجه مصر من حجم عمل.. وهى كلها معارك أظن أن الرئيس انتصر فيها.. بينما تشير المؤشرات إلى أننا تجاوزنا فترة الأزمة المركبة دون أن توقف عجلة العمل فى مشاريع الدولة وهو ما يعنى أننا سنشهد فى الأيام المقبلة عددًا من الافتتاحات لمشاريع تعمير ومدن جديدة فى أنحاء مصر المختلفة ليلمس المصريون نتيجة الجهد المضنى الذى تم بذله خلال السنوات الماضية ويأملوا فى غد أفضل يستحقونه بكل تأكيد وهو قادم بإذن الله.