تهميش الثقافة
يحتاج العمل الثقافي في كل الأوقات إلى إدارة حديثة ناجحة، تتفرغ للإدارة طبقًا لإمكانيات مالية تنفق على أهداف محددة واضحة، وفي ظل عدم وضوح سياسة الوزارة، يصبح من شأن أي مدير ثقافي مهما كانت عبقريته أن يقفز في الظلام باحثًا عن سياسة طموحة ترضي الوزير وقيادات الدولة، وبمثل هذا المنطق تظهر لنا المشروعات والمهرجانات التي تحدث ضجيجًا وتخلو من الفن والثقافة، وعلى سبيل المثال تنام كل هيئات وزارة الثقافة طول العام ولا تستيقظ إلا في المواسم فقط.
فتستيقظ هيئة قصور الثقافة في رمضان، وتشارك وزارة الأوقاف في الاحتفال بالشهر الكريم وترصد الملايين على رقصات التنورة في ميدان السيدة زينب والقلعة وبعض الميادين المهمة في بعض المحافظات، كما تنفق الآلاف على محاضرين لا يقولون شيئًا، أسمائهم مكتوبة في أجندات الموظفين منذ أكثر من عشر سنوات.
والهيئة المصرية العامة للكتاب تستيقظ لمدة نصف شهر في يناير خلال معرض الكتاب، طوال العام لا تعمل تلك الهيئة شيئًا، ومع ذلك فهي متخمة بالمستشارين وكبار الموظفين ولا يعرف مدى العمل المنوط به كل منهم، ويكلفون الهيئة أموالًا طائلة تضاف إلى أزمة الكتاب التي لم تتمكن الهيئة من العثور لها على حل.
والمجلس الأعلى للثقافة لا تخرج أنشطته خارج أسواره في الزمالك، وأعضاء لجانه لا يتغيرون. وهم دائمًا من أصدقاء كبار رجال الثقافة، وجوائزه السنوية يثار حولها الجدل.
تعتبر الهيئة العامة لقصور الثقافة أكبر وأضخم هيئة ثقافية في وزارة الثقافة، ومع ذلك فقد تعرضت تلك الهيئة إلى التخريب بسبب دخولها في دائرة الصراع بين أهل الثقة وأهل الخبرة، وفي النهاية انتصر أهل الثقة، وبهذا أصبحت الهيئة مكافأة سياسية لمن تري الدولة مكافأته من رجال السياسة، أدى هذا إلى تربع عدد من غير المهتمين بالعمل الثقافي على قيادتها، وهو ما جعلهم ينظرون إلى الهيئة نظرة سطحية، فلم يبدع فيها مدير واحد منذ أن تركها سعدالدين وهبة وحسين مهران.
لدى هيئة قصور الفرصة الهائلة للتغلغل بين المواطنين في الصعيد، وتنشر الثقافة وتملأ المدن والقري بالمكتبات والمسارح، وترعي هوايات الشباب، وتخفف عن الناس وطأة الحياة، ولكنها أهملت رسالتها.
المعروف أن هيئة قصور الثقافة تمتلك أكثر من 400 موقع ثقافي منتشرة على امتداد الجمهورية، ما بين قصر ثقافة ومكتبة وناد للطفل ومسرح وسينما، وأغلب تلك المواقع متهالكة تحتاج إلى إحلال وتجديد كي تؤدي رسالتها في العمل الثقافي، خاصة أن بعض المواقع مضى على إنشائها أكثر من أربعين عامًا وأصبحت متهالكة، وبعضها كان مستأجرًا من الأهالي وبموجب قرار مجلس الوزراء عادت تلك المواقع إلى ملاكها، وأصبحت هناك مدن كثيرة لا توجد بها مواقع ثقافية. والمعروف أن هناك أكثر من أربعة آلاف قرية تحتاج إلى 375 موقعًا ثقافيًا جديدًا.
ولا شك أن مطالبة وزارة التخطيط بتدبير اعتمادات مالية لتجديد تلك المواقع وإنشاء مواقع بديلة تكلف الدولة ميزانية هائلة وغالبًا ما تؤجل تلك المطالب.
وليس هناك ما يمنع وزارة الثقافة من الاستفادة من تجارب القوات المسلحة والشرطة في إنشاء المواقع بسرعة وكفاءة بأسعار رخيصة، وهي المواقع سابقة التجهيز أو الكرافانات الخشبية. وهي منشآت متينة استعملت كملاجئ ومخازن وورش ومكاتب للموظفين، وتتحمل العمل لأكثر من عشرين عامًا، ويمكن نقلها من مكان إلى آخر وتتوافر فيها شروط المتانة والأمان. ويمكن لهيئة قصور الثقافة أن تقوم بإحلال مؤقت لمعظم المواقع. لا تحتاج تلك المواقع إلا لقطعة أرض فضاء مملوكة للدولة. وأراضي الدولة موجودة بكثرة في كل القرى والمدن. ويمكن أن تقام تلك الكرافانات على أراضي الدولة إلى حين قيام الوزارة بإنشاء مواقع ثابتة حسب الخطة التي تضعها وزارة التخطيط . ومن الناحية العملية فليس هناك ما يمنع من إنشاء مكتبات عامة في تلك الكرافانات تستمر في مكانها مدة طويلة، لحين قيام الدولة بإنشاء أماكن بديلة، ويمكن أن يعمم هذا النظام في المدن والقري الخالية من المواقع الثقافية، ويمكن الاستفادة بها في عمل الندوات وقاعات السينما ومكتبات عامة.
ولا شك أن هذا المشروع يمكن أن يتحقق بالتعاون مع الوحدات المحلية على مختلف مستوياتها، ابتداء من محافظ الإقليم حتى رئيس الوحدة المحلية للقرية.
ويلاحظ أنه منذ أن بدأت الهيئة في تشكيل ما يعرف بنوادي الأدب بنظام الانتخابات، وبدأت المعارك والمشاحنات بين الأدباء حتى وصلت إلى صفحات الجرائد وأقسام الشرطة. وهو أمر مؤسف ونتاج طبيعي للنزاع على المميزات التي يحصل أعضاء تلك النوادي عليها، مثل أسبقية النشر في مطبوعات الهيئة، وتلقي الدعاوي لحضور الندوات والمهرجانات التي تنفق عليها الهيئة بسخاء. ورغم كل الجهد المبذول والأموال التي أهدرت فلم تتمكن الهيئة إلا من تقديم عدد محدود من الكتاب والشعراء والنقاد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة في كل محافظة، وبعض المحافظات لا يوجد بها مبدعون. وعندما ساعدتهم الهيئة على نشر إنتاجهم في سلسلة خاصة بإبداع الأقاليم.
والمعروف أن من بين مبدعي الأقاليم من لا تقل موهبته الأدبية عن أدباء العاصمة. وهؤلاء يجب أن ينصب نشاط الهيئة عليهم، وتقديمهم إلى المنتديات الأدبية في القاهرة ورعايتهم ونشر إنتاجهم على مستوي أوسع في الهيئة المصرية العامة للكتاب، وأن تعدل الهيئة من لوائحها ليسمح لها برعاية أدبائها، ومنحهم فرص التفرغ التي يقدمها المجلس الأعلى للثقافة لأدباء وكتاب وفناني مصر، أو تقديم دخل ثابت لبعضهم يعينهم الإنفاق على القراءة والنشر في دور النشر الكبرى، وهؤلاء الذين يقيمون بعيدًا عن العاصمة أولي بالرعاية من كثير من الكتاب الذين لهم مصادر دخل أخري.