القاهرة السينمائى.. أفلام تنتصر للإنسانية.. وجوائز خارج التوقعات
الإنسانية كانت هي السمة الغالبة على إنتاجات العام من الأفلام السينمائية التي نجح المهرجان في الحصول عليها وبعضها قدم في المهرجان عرضه العالمي الأول أو العرض الأول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
فعلى ما يبدو أن سنتي الوباء والأزمات الاقتصادية جعلتا السينما تحلق بألقها المعهود بعيدًا عن كل هذا التشظي.
فالإنسان أولًا والإنسانية هي بندول التوازن في هذا الكوكب.. وأسدل الستار مساء الثلاثاء الماضي على فعاليات الدورة الـ٤٤ لمهرجان القاهرة السينمائي وأعلنت جوائزه في حفل غير صاخب.. فختام المهرجانات هو دومًا المحصلة والحصاد لأيام وعروض المهرجان وفعالياته.
والإعلان عن الجوائز هو الحدث الأهم الذي يعلو على أي شيء آخر.. أما الإبهار فقد امتد بالفعل على مدار ٩ أيام، الإبهار هو وظيفة السينما وعروضها أما حفل الختام فهو لإعلان الجوائز فقط.. ومنذ سنوات شهد المهرجان تطورًا وتحديدًا منذ دورة الراحل العظيم الناقد السينمائي الاستثنائي الكبير الأستاذ (سمير فريد) والذي دخل بالمهرجان لحقبة جديدة تواكب التطورات والمستجدات.. وبمرور الوقت شهدنا تيمات وتجارب سينمائية من بلدان حديثة العهد بالسينما مثل دول الخليج أو بلدان كانت إنتاجاتها ضئيلة مثل السودان ولبنان والتي كان لها نصيب الأسد من المشاركة في فعاليات الدورة الـ٤٤ بأربعة أفلام كانت هي التجربة الأولى والعمل الأول لأصحابها والعرض العالمي الأول لها في مهرجان القاهرة العريق.
وكان للبنان أيضًا حظر وفير من الجوائز.. فقد حصل العمل الأول للمخرج اللبناني (كارلوس شاهين) على الجائزة الأولى في مسابقة (آفاق السينما العربية) وهي جائزة مستحقة لمخرج خزنت ذاكرته الكثير من الصور والحكايات طوال سنوات عمره وصباه وغربته والشتات والحروب والتطاحن في بلده الجميل لبنان بين الفصائل المتناحرة وملوك الطوائف الذين قطعوا أوصال بلادهم لكنهم لم يستطيعوا إخماد بريقها ولا حب أهلها للحياة.
والسينما حياة كاملة متكاملة من خلالها نسجل حيواتنا وحيوات الأخرين ونجسد أحداثنا وأفراحهم وأتراحهم وتجاربنا.. وفي فيلم (أرض الوهم) يتعرض المخرج لإرهاصات الحرب الأهلية في بلاده التي بدأت منذ عام ١٩٥٨ وانقسام البلاد آنذاك بين تيارين أحدهما قومي عروبي بقيادة (وليد جمبلاط) والآخر ينظر للغرب ويرى فيه الحل وهو تيار (كميل شمعون) الذي طلب من الولايات المتحدة التدخل والدخول بقواتها إلى لبنان بسبب التوتر بين المسلمين والمسيحيين ونحمد الله أن التدخل الأمريكي لم يدم سوي ٣ أشهر فقط استقال بعدها الرئيس شمعون الذي عارضه آنذاك القوميون والاشتراكيون والشيوعيون.
وكانت تلك الإرهاصات أيضًا تجسيدًا للحرب العربية الباردة وشهدت لبنان حربًا أهلية راح ضحيتها أكثر من ١٢٠ ألف لبناني ونزح من البلاد حوالي مليون مواطن! ووسط تلك الأجواء نسج (كارلوس شاهين) قصة حب لامرأة تنحدر من عائلة أرستقراطية استضافت فرنسيين لبلدتها فوقعت الفتاة في حب الفرنسي الذي سرعان ما ترك البلاد وهجر حبيبته عندما استشعر خطر الحرب القادمة في إشارة غير مباشرة لخذلان الغرب للبنان مهما ادعى عكس ذلك.. والحل ليس أيضًا في التوجه العروبي من وجهة نظري، بل في لم الشمل اللبناني بعيدًا عن الطائفية واتحاد الجميع من أجل مواجهة الظرف الاقتصادي العالمي الصعب الذي يعاني منه لبنان وكأنه استبدل الحرب الأهلية بالحروب المصرفية!
وفاز أيضًا العمل الأول للمخرج اللبناني (باسم بريش) وعنوانه (بركة العروس) بثلاث جوائز لم تكن متوقعة أو مستحقة من وجهة نظر البعض.
وحصل فيلم (السد) وهو فيلم سوداني أخرجه المخرج اللبناني (علي شري) على جائزة أحسن ممثل ذهبت للممثل السوداني (ماهر الخير) وهو عمله الأول والجائزة جاءت مناصفة مع الممثل الفلسطيني (محمود بكري) عن الفيلم الفلسطيني الرائع (علم) وهو إنتاج فلسطين وتونس وفرنسا والسعودية وقطر، وحصد الفيلم جائزة الهرم الذهبي أي جائزة المهرجان الكبرى عن استحقاق وجدارة وكذلك جائزة الجمهور التي تحمل اسم (يوسف شريف رزق الله) وقدرها ١٥ ألف جنيه.
وحصل فيلم (بعيدًا عن النيل) للمصري شريف قشطة على جائزة أفضل فيلم غير روائي وهي جائزة مستحدثة في المهرجان منذ عامين، أما الفيلم المصري (١٩ ب) للمخرج المصري المتميز حاصد الجوائز دومًا (أحمد عبدالله السيد) فحصل على ٣ جوائز (جائزة أفضل فيلم عربي في المهرجان) وجائزة الفيبريسي وجائزة التصوير.
وخرج المخرج التونسي الكبير (رضا الباهي) العاشق لمصر والسينما المصرية وخصوصًا سينما الأبيض والأسود كما تحدث في الندوة التي أعقبت فيلمه البديع من ماراثون الجوائز وهو فيلم (جزيرة الغفران) الذي عرض في المسابقة الدولية للمهرجان ويرى كثيرون وأنا منهم أنه كان يستحق جائزة واحدة على الأقل.
فجائزة أفضل فيلم عربي كان يستحقها فيلم رضا الباهي أو إحدى جوائز مسابقة (آفاق السينما العربية) التي ذهب ٣ منها لفيلم (بركة العروس) ففيلم (جزيرة الغفران) فيلم ساحر وعذب حلق بنا بعيدًا عن التمييز والعنصرية وأعطى للوطن وحركة التحرر ضد الاستعمار قيمة تعلو فوق الصراعات الأخرى المجانية التي تريد جر البلاد للإرهاب والفتن الطائفية فالدين لله والوطن للجميع ولا إكراه في الدين، كما جاء على لسان أحد أبطال العمل الذي يعود بنا للوراء ولأزمنة غابرة عاشها وعايشها المخرج في صباه وصور فيلمه البديع في مدينة (جربة) الساحرة التي شهدت مدًا غربيًا وعاش على أرضها فرنسيون وطليان وظهرت فيها أديان متعددة فهي مدينة ساحلية كوزموبوليتانية منفتحة على الآخر وتقبل الآخر وترفض القولبة والتقزيم ففي التنوع ثراء وتعددية أما التوجه الأحادي وفكرة الدين الواحد فيها تقزيم للأوطان وهدم لمفهوم الوطن والمواطنة.
وبالطبع ذهب بعض جوائز المهرجان لأفلام أجنبية فحصل الفيلم البلجيكي الفرنسي (الحب بحسب دالفا) على جائزة الهرم الفضي وجائزة أحسن ممثلة والهرم البرونزي ذهب للفيلم البولندي (خبر وملح)، وحصلت المخرجة المصرية (كوثر يونس) على أفضل فيلم قصير عن فيلمها (صاحبتي) الذي عرض في فعاليات مهرجان فينسيا ٢٠٢٢، والفيلم الباكستاني (جويلاند) على جائزة في مسابقة أسبوع النقاد.
وإلى جانب كل تلك الأعمال الفائزة والتي أغلبها كان يستحق الفوز عرضت الدورة الـ٤٤ من مهرجان القاهرة مجموعة أخرى متميزة من الأفلام سواء في قسم البانوراما الدولية أو القسم الرسمي خارج المسابقة وعلى رأسها فيلم (مقرب) والحاصل على السعفة الذهبية في مهرجان (كان) ٢٠٢٢ وهو فيلم فرنسي بلجيكي هولندي.
فالإنتاج المشترك سمة أصبحت غالبة على صناعة السينما منذ أعوام وتلك الظاهرة في تزايد مستمر ونلحظها عام بعد عام بسبب صناديق دعم الأفلام والمنح التي تقدم للأعمال من المهرجانات وغيرها.
فسوق الفيلم في العالم كله وسوق الفيلم العربي يشهد تطورًا سريعًا لاهثًا أتمنى أن يصب في النهاية لصالح السينما وقد أحبط جمهور المهرجان بسبب عرض الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى لمهرجان كان لمرة واحدة فقط وفي ساعة مبكرة نسبيًا وكان العرض في قاعة المسرح الصغير وهي قاعة غير مؤهلة من وجهة نظري للعروض السينمائية، فالمسرح الصغير جعل خصيصًا لاستضافة حفلات موسيقى الحجرة في المقام الأول وحفلات موسيقية لعازفين وبعض الحفلات الغنائية، فقاعته الصغيرة لا تحتمل عددا كبيرا من المشاهدين بل لا تصلح للمشاهدة السينمائية على العكس من المسرح الكبير الذي يتسع لعدد كبير من المتابعين وصممت قاعاته وكراسيه المتدرجة بحيث يتمكن الجميع من رؤية شاشة العرض والترجمة لذلك حدث بعض الاحتكاكات والملاسنات بين الجمهور وأمن المسرح لعدم تمكن البعض من رؤية الفيلم على شاشة المسرح الصغير الذي أتمنى أن تقتصر في الأعوام المقبلة فعالياته على إقامة ندوات المهرجان فقط.
أما مسرح النافورة وهو المتنفس والرئة التي فتحت لدار الأوبرا ومن ثم مهرجان القاهرة في ظل جائحة كورونا، وهو مسرح كبير يتسع للآلاف ومجهز بشكل رائع ويصلح للمشاهدة السينمائية في الهواء الطلق الذي لم يؤثر نهائيًا على جودة الصوت وتقام فيه الندوات الكبرى أيضًا كندوة الراحل الكبير (وحيد حامد) وندوة المخرج البولندي العظيم (بيلا تار) فاكهة المهرجان وجائزته الحقيقية بخبرته الواسعة سينمائيًا وحياتيًا فقدم ماستر كلاس كان إضافة حقيقة لفعاليات المهرجان هذا العام واستحق وعن جدارة جائزة الهرم الذهبي لإنجاز العمر وهو تكريم رفيع يمنحه المهرجان لمبدعيه الكبار من أصحاب الإنجاز والمشوار الطويل.
وسعدت بعودة المخرج الجزائري الكبير (مرزاق علواش) بفيلم اجتماعي خفيف الظل عنوانه (العايلة) فقد اشتقنا لإبداعات المخرج المخضرم صاحب الإنتاجات العديدة والأفلام الهامة منذ فيلمه الأول (عمر قتلته رجولته) وهو من انتاج السبعينيات مرورًا بأفلامه عن الإرهاب مثل فيلمه البديع (حومة باب الواد) وأخيرًا فيلمه الأخير.. فعودٌ أحمد لمخرج كبير من الجزائر له تاريخ سينمائي طويل، وكذلك الممثل والمخرج المغربي الفرنسي (رشدي زيم) الذي شارك بفيلم إنساني اجتماعي شديد العذوبة عنوانه (روابطنا) الذي كان يستحق حتمًا جائزة التمثيل وجائزة السيناريو إن تم عرضه ضمن أفلام المسابقة، لذلك ذهبت جائزة السيناريو للفيلم الياباني المشارك في المسابقة الدولية (رجل ما).
ومن الأفلام البديعة التي عرضت في القسم الرسمي خارج المسابقة فيلم (حنين) من إنتاج إيطاليا وفرنسا والفيلم الروماني (RMN) للمخرج الاستثنائي (كريستيان مونجيو) والذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان عام ٢٠٠٧ عن فيلمه (٤ أشهر وثلاثة أسابيع ويومان) وحصل كذلك على جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان عام ٢٠١٦.
كذلك الفيلم الفرنسي ذو البعد الإنساني الملىء بالشجن (سانت أومير) والبلجيكي المفعم بالمشاعر الإنسانية الإستثنائية (توري ولوكيتا) والذي جسد مأساة مهاجرة من إفريقيا لبلجيكا وقسوة الحياة والظروف عليها وارتباطها بطفل شديد الذكاء علمته الحياة الكثير وهو في سن صغيرة فقام بمهامٍ يعجز عنها الكبار وأقدم على مغامرات لانفاذ لوكيتا التي كانت تؤنس وحدته ويغنون سويًا.. فلوكيتا علمت (توري) الغناء وشكلا سويًا دويتو غنائي مرح ليربحوا منه بعض المال لتسديد ديونهم لسماسرة الهجرة غير الشرعية ولمساعدة أهاليهم في إفريقيا، وكان (توري) الصغير يرسم للوكيتا اللوحات لتبتهج وكانا يتعالجان بالفن والرفقة والاحتماء ببعضهما البعض بعد أن واجها معًا ذات الظروف المأساوية في بلادهم ثم هجرتهم غير الشرعية في قوارب الموت لأوروبا ودفعت (لوكيتا) حياتها ثمنًا لاستغلال الجميع لها جنسيًا وماديًا وإجبارها وتوري على بيع المخدرات ليبقى (توري) وحيدًا في نهاية المطاف في هذا العالم وهذا الوجود القاسي بعد قتل (لوكيتا) رفيقته الوحيدة في الحياة.
أما الفيلم الإنجليزي (الابن) فكان مفاجأة يستحق التوقف أمامها طويلًا لطرحه قضية وإشكالية اجتماعية تواجهها الكثير من الأسر الذي حدث فيها شرخ أثر سلبًا على نفسية أبنائها فليس الجميع على نفس الدرجة من الإحساس أو المقدرة على المواجهة والتحمل والثبات الانفعالي، فالابن في الفيلم ومن فرط حساسيته وألمه الداخلي الذي وجهه لنفسه حتى أقدم فعليًا على الانتحار.
تجربة تستحق حقاً التوقف عندها وسأخصص مقالات لاحقة لبعض تلك الأفلام الهامة وكل مهرجان وقاهرتنا قاهرة لعباد العتمة من الأصوليين.. محتضنةً لإبداعات المبدعين وأصحاب الألق.. ففي السينما حياة ومقاومة لكل الشرور والعنصرية والتمييز الذي يباعد ولا يقرب فتقربنا السينما بلغتها العالمية من بعضنا البعض لندرك أننا جميعًا أبناء الإنسانية بلا تفرقة أو تمييز أو تصنيف.