عودة التفجيرات إلى القدس.. الإشارات والدلالات
فى السابعة من صباح الأربعاء بمدينة القدس، وهو الوقت الذى يوصف بالذروة، من حيث تجمع الغالبية من الجنود الإسرائيليين المقيمين فى القدس الغربية وتل أبيب وما حولهما من مناطق، أمام محطات الباص الرئيسية كى تنقلهم الحافلات إلى أماكن عملهم. فضلًا عن مدنيين تستلزم أعمالهم استخدام هذه المحطات «المركزية»- وقع انفجار أول لعبوة ناسفة بالقرب من المدخل الرئيسى الغربى للقدس فى «غفعات شاؤول»، وبعد نصف ساعة بالضبط فى تمام السابعة والنصف وقع انفجار ثان عند مدخل آخر لمدينة القدس، يعرف بـ«مفترق راموت».
أسفرت العمليتان عن مقتل شخص وإصابة ٢٢ آخرين، بينهم خمسة على الأقل فى حالة خطرة وفق بيانات الصحة الإسرائيلية. الشرطة الإسرائيلية وفرق المسح الفنى لموقع الحادثين رجحت أن الانفجارين نجما عن تفجير عن بُعد لعبوتين ناسفتين شبه متطابقتين تم وضعهما فى حقيبتين، أو تم استخدام دراجة نارية فى أحدهما فيما لم يتأكد ذلك بعد، لكن فى كل الأحوال هناك عبوات صغيرة الحجم ومحشوة بـ«الكرات والمسامير» الحديدية لإيقاع أكبر قدر من الخسائر، هذا تأكد من آثار خلّفه التفجير الأول على عدد من الباصات، فيما استخدمت آلية التفجير عن بُعد بأى من تقنيات تنفيذها المعتادة.
المشهد العام فى الضفة الغربية منذ شهور طويلة تمتد لشهر رمضان الماضى، يشهد حالة من تصعيد التوتر الأمنى المستمر غير المسبوق، مما يجعل توقع فعل فلسطينى على تلك الشاكلة أمرًا أقرب من أى احتمال آخر. حيث كان هناك إعلان رسمى من الجيش الإسرائيلى منذ مارس الماضى، بدخول قواته إلى مدينة «جنين» ومحيطها تحت ذريعة ملاحقة مطلوبين قاموا بهجمات دامية ضد إسرائيليين، منذ هذا التاريخ عمليًا لم تنته العملية العسكرية، ولم يخل أسبوع واحد من عمليات اعتقال أو قتل بحق الفلسطينيين امتدت لتشمل غالبية مدن الضفة، وإن ظلت على نحو مركز فى «جنين» و«نابلس» وفق ما وفرته المعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية. العناصر والخلايا التى تقود وتنفذ العمليات ضد المستوطنين وقوات الجيش والأمن تتواجد وتدار من هذه المناطق، وفق ما توصلت له الأجهزة الإسرائيلية، وهو ما أطلق يدها لإسقاط ما يتجاوز «١٥٠ فلسطينيًا» فى مقابل ٣٠ إسرائيليًا عن نفس المدة تقريبًا.
لهذا لم تبد حوادث القدس الأخيرة أمرًا مستغربًا، لكن الثابت أن القادة السياسيين فى إسرائيل والغالبية من الرأى العام، أصابتهم صدمة حقيقية فى الساعات الأولى من هذين التفجيرين. جاء ذلك لعدة أسباب؛ يمكن إجمالها فى الآتى:
أولًا: المكان والزمان. وقوع العملية فى قلب القدس وهى المدينة التى تحظى بوضع أمنى استثنائى، ويحرص الأمن الإسرائيلى على اعتبارها منطقة «حرام» لا تقبل ما يمكن قبوله فى مناطق الضفة الأخرى. فتكريس مبدأ «العاصمة الموحدة» تزعزعه وتشرخ شرعيته مثل تلك العمليات، خاصة فى حال تكرارها، وهو الأمر الذى يبدو أكثر ترجيحًا. كما يعكس وصول منفذين فلسطينيين إلى تلك المناطق المركزية، قدرة على الاختراق تجعل بقية المناطق ذات الأهمية غير بعيدة عن احتمالية الاستهداف. ويظل التوقيت لافتًا بالطبع، فتنفيذ عملية نوعية مزدوجة عشية تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة التى ستضم الأجنحة الأكثر تطرفًا وعنصرية، هى ضغط مباشر على أعصاب نتنياهو وإن لم يكن قد أكمل تشكيلته أو تسلم مهامه بعد. وهى رسالة فلسطينية للناخب الاستيطانى الذى جاء بهذه الأحزاب، أن توازن الرعب لا يزال فى حوزة الفلسطينيين فى حال لم يبق لديهم سوى اللجوء لسلاح الإرهاب «رخيص الثمن».
ثانيًا: التحول النوعى فى أداة المقاومة. ربما لم تتكبد إسرائيل عددًا من القتلى يماثل العدد الذى سقط من جنودها «الجيش، والشرطة» ومستوطنيها ومدنييها، أمام فعل مقاوم فلسطينى غير منظم، بمثل ما تحملته خلال عام ٢٠٢٢ الذى بلغت حصيلته «٣٠ قتيلًا» حتى الآن، فضلًا عن المصابين. لكن معادلة الأمن الإسرائيلية باتت تستوعب- حديثًا- مثل هذا العدد والنوع من الضحايا، طالما كان بشكل متفرق وجراء عملية طعن هنا ودهس هناك أو حتى بطلقات منفردة طائشة. عملية اليوم قد تمثل فارقًا لتلك المعادلة المرنة، التى جعلت إسرائيل تمضى فى انتهاكاتها بحق المدن الفلسطينية بوتيرة متوسطة، بل تمضى فى تفاعلاتها السياسية الداخلية والإقليمية والدولية، دون إبداء انزعاج ملحوظ أو توقف وتبين من نوع ما. فعلى جانب آخر من المعادلة حصرت التهديد الذى يوصف بـ«الفعلى» من جانب أجهزتها، فى نطاق ما يمكن اشتعاله بينها وبين قطاع غزة متجاهلة «عن عمد» الضفة الغربية بكامل مشتملاتها. اليوم تلك المعادلة ربما ستخضع لمراجعة شاملة، فالتقديرات التى صاغت المعادلة الأمنية الإسرائيلية على هذا النحو مليئة بالمغالطات والتشوش وإنكار الواقع، فيما أثبتت الوقائع والتفاعلات على الأرض خطأها مرات عدة.
ثالثًا: الفجوة بين الإخفاق الاستخباراتى والسيولة السياسية. أحد الأسباب الأولية لصدمة أجهزة الأمن الإسرائيلية، هى بالطبع عدم توافر معلومات استباقية عن هذا النوع من العمليات، لكن الإخفاق الاستخباراتى حقيقة لا يقف عند هذا الحد رغم فداحته. فالعمل الاستخباراتى موكل إليه ضرورة تقديم إجابات عن الأنماط الجديدة للعمل الفلسطينى ضد إسرائيل، بداية من الانتماءات التنظيمية للشباب الذى يدير المواجهات منذ العام الماضى حتى ساعات قبيل التفجير الأخير، وصولًا للقدرات وللقفزات التكتيكية التى لن يوقفها هدم المنازل أو حصار المدن والمخيمات. الإخفاق لم يلمح أن شباب حركة «فتح» التى تبنت عملية السلام مع إسرائيل، وتدير السلطة الفلسطينية فى أصعب وأضيق مساحات عمل ممكنة، هؤلاء انفلتوا تنظيميًا وباتوا أقرب للفعل المقاوم من غيرهم، وصاروا قادرين على إدارة تحالفات صغيرة وموقوتة بعمليات بعينها مع شباب آخر، يمارس ذات التحرر من قياداته التى قد تخضع لحسابات ومواءمات لا تقيده فى شىء. من ملامح الإخفاق أيضًا أن يظل الجانب الإسرائيلى يراهن على آلة البطش، ويسمح للمستوطنين بالتمادى فى الاعتداء على الفلسطينيين فى القدس والضفة الغربية بالشراكة مع الجيش، باعتبارهم السلاح المتطور الذى لم يزد الأمر إلا اشتعالًا.
تبقى السيولة السياسية التى تسببت فى ست دورات انتخاب لحكومات عجزت جميعها عن تحقيق اختراق سياسى واحد، على صعيد نقل قضية التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طريق يحميها من الانزلاق إلى مزيد من التطرف والتعصب. حيث بدا لافتًا أن يكون أول من يعلن عن عمليتى التفجير بالقدس، وأول من يصل للمكان هو عضو الكنيست «إيتمار بن غفير» اليمينى المتطرف، الموعود وفق النتائج الأخيرة بحقيبة وزارية قادمة قد تكون «الأمن الداخلى»، فى رسالة قد لا تدل إلا عن المزيد من تكريس التطرف والأكثر تطرفًا.