ما وراء دعوة الرئيس لنشر المكتبات
من وجهة نظرى الخاصة، فإن توجيه الرئيس بنشر المكتبات فى شوارع مصر يمكن أن يكون بداية لمرحلة جديدة.. المرحلة التى أعنيها هى مرحلة استعادة الثقة بين الدولة والمثقفين، وربما تليها مرحلة انطلاقة جديدة للثقافة المصرية، إذا قصرنا الحديث عن ثورة يوليو فقد كان ثمة مراحل مختلفة للعلاقة أرخ لبعضها الأستاذ محمد حسنين هيكل فى كتاب حمل اسم «أزمة المثقفين» أصدره فى بداية الستينيات ولم يعد طبعه فيما تلى ذلك من سنوات وكانت فكرته الأساسية أن ما يجرى على الأرض من إنجازات يسبق أفكار المثقفين وأنهم عاجزون عن تفهم دوافع الثورة واللحاق بها، لم يكن ما يقوله هيكل بعيدًا عن الواقع وقتها وإن لم يكن صحيحًا كله، فى مرحلة تالية حدث نوع من المصالحة بين ثورة يوليو والمثقفين اليساريين والذين كانوا أغلبية فاعلة بين مبدعى مصر وكتابها، تخلوا بموجبها عن أن يكون لهم تنظيم سياسى مستقل مقابل استيعابهم فى مؤسسات الدولة الثقافية والإعلامية وقد استمرت هذه المرحلة خمس سنوات وشهدت تجارب ناجحة للغاية، ثم جاء الرئيس السادات بوجهة نظر أخرى، تتوجس من المثقفين، ولا ترى فيهم سوى معارضين سياسيين، وتميل لتفكيك المؤسسات الثقافية وتقليل فاعليتها، وتزامن هذا للأسف مع إطلاق الجماعات الدينية، والتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين، وإطلاق يد السلفيين، فتراجع المثقفون وسيطر المتطرفون، وخسرت الدولة سلاح الثقافة وهو سلاح رئيسى فى بناء الوعى والوجدان، وفى بث قيم التقدم، والسلام، والنمو، والعمل، وبدونه تسيطر الخرافة، ويحكم الجهل، ويعتلى تجار الدين رقاب الناس، ويصوغون لهم تصوراتهم عن العالم، ويبثون فيهم قيم التواكل والانتحار والتكفير والكراهية، وللأسف الشديد فقد تخلت الدولة فى السبعينيات عن هذا السلاح، وبالغ الرئيس السادات فى عدائه للمثقفين حتى وصفهم بـ«الأفندية الأراذل» ووصم بعض الشيوخ كل مثقف بالإلحاد والكفر، وقدمت بعض الأفلام صورة مزرية للمثقفين، فخسر المجتمع وربح المتطرفون، وشعر المثقفون بالاغتراب وبالرغبة فى البعد عن مؤسسات الدولة، وانسحبوا إلى هامش المجتمع، واكتفى بعضهم بالكتابة فى بعض الصحف العربية، ولجأ بعضهم إلى العمل الأهلى الممول فى التسعينيات، وراوح بعضهم فى محله، وقد تغير الحال شكليًا فى التسعينيات، فبعض المسئولين كان يكره الثقافة، وشاع عن بعضهم أنه ما أن يسمع حديثًا عميقًا حتى يعرض عنه، وانشغلت المؤسسات الثقافية بأن ترسل رسالة للعالم أن مصر خالية من الإرهاب، فكان التركيز على المهرجانات والمؤتمرات حتى يأتى الضيوف من خارج مصر ويتأكدوا أن مصر خالية من الإرهاب، لكن الحقيقة أننا كنا ندارى التراب تحت السجادة كما يقول المثل الشهير، وأن الضيوف كانوا يأتون ليقيموا فى الفنادق الشهيرة ثم يغادروا، بينما أفكار التطرف والتزمت والتخلف تزدهر فى شوارع مصر وقراها ومدنها، وبالتالى كان المثقفون وكأنهم يعيشون فى صوبات زجاجية أو محميات طبيعية، وساعد على ذلك عدم وجود اجتهادات صادقة حول دور المثقف الإصلاحى، الذى يتحالف مع الدولة لتحقيق الإصلاح ونشر التعليم وأنوار المعرفة مثلما فعل آباء الثقافة المصرية رفاعة الطهطاوى ومن بعده طه حسين، وقد قدم كل منهما منفردًا لمصر ما لم يقدمه آلاف المثقفين الآخرين الذين ادعى بعضهم الثورية واعتبر الدولة خصمًا له سواء على مستوى الفكرة أو على مستوى الأشخاص، وقضى عمره فى اللا شىء، منعزلًا عن الناس، ساخطًا على الأوضاع، شاعرًا بالمرارة والأسى إن كان صادقًا، أو مدعيًا للمعارضة وباحثًا عن الدعم الخارجى إن كان كاذبًا، وكلا النموذجين موجود.. وكان من أسباب التقاعس عن الاجتهاد فى الأفكار الإصلاحية أن مقعد المثقف المعارض كان فى كثير من الأحيان أكثر جاذبية وأقل مسئولية وأكثر من حيث منافعه، إذا كان صاحبه يبحث عن منفعة، وكان من دواعى التقاعس عن الاجتهاد فى الإصلاح أيضًا تلك الحرب التى يشنها المنافقون والمنتفعون من السلطة ضد أى إصلاحى حقيقى لإنه يهدد منافعهم، وبالتالى أصبح المثقف الإصلاحى بين شقى الرحى كما يقول المثل السائر، أو واقعًا بين «المزايدين» من جهة وبين «المنتفعين» من متوارثى تأييد السلطة جيلًا بعد جيل ورئيسًا بعد رئيس.. لكن ما عجز الجميع عن إدراكه أن هذا الوضع تغير بعد ثورة ٣٠ يونيو لأن الرئيس السيسى نفسه هو مصلح من داخل الدولة المصرية، أدرك الأخطار التى تتهددها فتقدم ليحمل الأمانة، ويوقف التدهور، وينفذ مشروعًا طموحًا للنهضة العمرانية والإنشائية وما يتبعها فى مختلف المجالات، ويتخذ سياسة معادية للفساد والتطرف معًا، وبالتالى فإن المثقفين الذين ما زالوا أسرى الحسابات القديمة هم غائبون عن الواقع لحد كبير، ومحبوسون داخل ذواتهم لحد كبير، وأظن أنهم يفوتون فرصة حقيقية للإسهام الجاد فى نهضة هذا المجتمع، ويتخلون عن دورهم فى تعليم الناس والنزول لهم، وتنوير عقولهم بالتعاون مع مؤسسات الدولة الثقافية، ولا يعنى هذا أن الواقع مثالى، فالكمال لله وحده، ولا أنه لا يوجد ما يوجب الاعتراض، فلا عصمة إلا لنبى، ولكن الواقع يفرض نوعًا من فقه الأولويات، والأولوية الآن أن نتحد جميعًا لمحاربة أفكار الجهل والتخلف التى تم إغراق مصر بها طوال النصف قرن الماضى ولعل هذه هى المرحلة الأولى نحو النهضة ونحو الإصلاح السياسى أيضًا، فلا إصلاح حقيقيًا بلا تعليم للناس، ولا حرية اختيار بدون وعى، ولا ديمقراطية حقيقية فى وجود من يتاجر بالدين ويخدع البسطاء باسم السماء، إننى أدعو لاجتهاد حقيقى لصياغة رؤية إصلاحية يتحالف فيها المثقفون الحالمون بتغيير المجتمع مع مؤسسات الدولة الثقافية للنزول للناس ونشر الوعى والثقافة وتغيير الأفكار على الأرض وتأهيل الناس للحياة الكريمة التى يستحقونها.. هذا إذا كان مثقفونا يرغبون فى تغيير الواقع فعلًا.. أما إذا كان بعضهم يرغب فى مزيد من الإحساس بالمؤامرة والعدمية واللا جدوى والحزن والغضب فليواصل كما هو ليكتشف أن العالم حوله يتغير أو أن كل شىء يتغير فيما عداه.. ولعل هذه مأساة بعض مثقفينا.. ومأساة مجتمعنا المحروم من جهودهم أيضًا.