وصية «سيد كريم» التى نفذها السيسى
فى مقالى بالأمس حول «الرؤية الثقافية فى تجربة التنمية المصرية» استشهدت بآراء د. سيد كريم حول إنقاذ القاهرة من الاختناق، والتى نقلها عنه د. مصطفى محمود فى مقال له، وقلت إن الدولة الآن تنفذ هذه الرؤية حرفيًا ولكنها للأسف يتم تنفيذها بتكلفة أعلى بكثير مما لو تم تنفيذها منذ أربعين أو ثلاثين عامًا، وبقدر ما أسعدنى أن يسأل بعض القراء عمن هو د. سيد كريم، بقدر ما آلمنى أننا جميعًا لا نعرف سوى أقل القليل حول هذا المعمارى المصرى الرائد، فى حين نعرف كل التفاصيل عن طريد الكشرى، والفنان الأسطورة، ومطرب المهرجان الذى تشاجر مع زميله... إلى آخر هذه الترهات التى تملأ حياتنا اليومية وتسممها بتفاهاتها وضحالتها وقلة قيمتها.. إن سيد كريم هو واحد من جيل النهضة المصرية، ولد فى ١٩١١ وهو العام الذى ولد فيه العظيم نجيب محفوظ، ودرس الهندسة فى مدرسة الهندسة الملكية وتخرج فيها عام ١٩٣٢ ليقلد المئات من أبناء جيله، ويسعى إلى أوروبا طلبًا للعلم، فيحصل على الدكتوراه من زيورخ بسويسرا، ويعود ليعمل مدرسًا بكلية الهندسة جامعة القاهرة، وهو فى هذا الوقت المبكر يجمع بين ثلاثة اهتمامات متجاورة ومتباينة أيضًا، فهو معمارى كبير يرسم المبانى ويصممها، وهو خبير فى تخطيط المدن وإنشائها، وهو أيضًا قارئ وكاتب له اهتمام خاص بالحضارة المصرية القديمة وأسرار تميزها وخلودها وله فى هذا مؤلفات كثيرة وهو أيضًا مؤسس مجلة متخصصة عن المعمار وفنونه يرأس تحريرها ويصدرها فى ذلك الوقت المبكر من الأربعينيات، ولا شك أن رغبة ثورة يوليو فور قيامها فى تعمير أجزاء جديدة من القاهرة، وتغيير ملامحها القديمة بشكل يظهر قدرة الثورة على الإنجاز قد تلاقت مع عبقرية سيد كريم، ووعيه السياسى، ومذهبه فى إخضاع العمارة لخدمة الإنسان والعدل الاجتماعى، من ذلك أنه تحدث منذ وقت مبكر جدًا عما أسماه «اشتراكية الفيلا» وكان يقصد به إمكان تصميم بيت مستقل بمساحة صغيرة وتكاليف اقتصادية، يناسب احتياجات الطبقة الوسطى «فى ذلك الوقت» دون أن يكون ساكن الفيلا من الطبقة الأرستقراطية أو طبقة ملاك الأراضى، وهى أفكار تم تطبيقها فيما بعد بتوسع من خلال العمارات السكنية التى تضم شققًا على مستويين، إلخ، وإن بقيت فى إطار الأغنياء والموسرين فقط لأن من نفذها هى شركات القطاع الخاص، وهكذا أصبح سيد كريم بمثابة الظهير المعمارى للدولة قبل وبعد ثورة يوليو، فخطط منطقة ثكنات قصر النيل بمجرد إخلائها من الجيش الإنجليزى وبنى فيها مقر جامعة الدول العربية، وفندق الهيلتون القديم، وكل ما يحيط بهما فى ميدان التحرير، ثم خطط ثكنات العباسية بعد إخلائها لتحمل اسم مدينة نصر، التى كان مخططًا لها أن تصبح عاصمة إدارية جديدة لمصر، وبنى فيها مساكن آدمية للطبقة الوسطى، لولا أن داهم الانفتاح المدينة وهى ما زالت تنمو، فارتفعت الأبراج، وتحولت الجراجات إلى بوتيكات لغسيل الأموال، وعمت الفوضى كل شىء، وإذا صحت المعلومات المنشورة عن الرجل والتى هى فى الأغلب الأعم على مسئولية أسرته وتلاميذه فقد طالب الرجل منذ الخمسينيات وخطط لمشروع المترو الكهربائى، والذى تأخر تنفيذه حتى هذا العام، بعد أن سابقت الدولة الزمن لتلافى تأخير نصف قرن بسبب الحرب حينًا وبسبب الكسل وضعف الهمة فى مرحلة ما بعد الحروب غالبًا، وإذا صحت المعلومات فقد تحدث الرجل عن مشروع «المونوريل» منذ الستينيات، ورأى أنه الحل المناسب للتعامل مع زحام القاهرة وتداخل أحيائها المعمارى، ومن خلال عمله كخبير فى الأمم المتحدة تقدم الرجل بمشروع متحف الحضارات، الذى لم يتم افتتاحه سوى العام الماضى! بجهد ومتابعة من الرئيس السيسى الذى بدا وكأنه جاء لينفذ وصية سيد كريم الذى لم يقابله فى حياته غالبًا، حيث توفى الرجل عام ٢٠٠٥ وإن كان الأكيد أن الرئيس قد قرأ عنه وعن أحلامه للقاهرة الكبرى إما بشكل مباشر أو من خلال تلاميذه فى مجال تخطيط المدن ومنهم د. مصطفى مدبولى الذى هو بمثابة حفيد لهذا المعمارى الرائد فى مجال تخطيط المدن، والذى لا شك تأثر بأفكاره أثناء عمله وزملائه على مشروع «القاهرة ٢٠٥٠»، لقد كانت وصية د. سيد كريم هى بناء عاصمة جديدة، ومتحف عظيم للحضارات، والتوسع فى وسائل النقل العام، وإحياء الوعى بالحضارة المصرية القديمة، وعشرات من التفاصيل الأخرى التى لو تم تنفيذها منذ أربعين عامًا لكان للقاهرة وجه مختلف عن الوجه الذى كانت عليه حتى سنوات قليلة ماضية، ولتفرغنا اليوم لمزيد من الانطلاق بدلًا من الانشغال بإصلاح أخطاء الماضى، لقد تعرض هذا المعمارى العظيم الذى بنى قصور حكم وعواصم كاملة فى أهم وأغنى الدول العربية للإساءة من بعض المتطرفين بسبب آراء شجاعة له حول الحضارة المصرية القديمة وتأثر الديانات جميعًا بها من خلال الأميرة المصرية هاجر أم العرب وزوجة نبى الله إبراهيم عليه السلام، وربما كان ذلك سببًا مع عوامل أخرى لمحو اسمه ونسيانه وعدم الاعتراف بفضله، فى أزمنة كان يتم فيها محو ذكر كل رموز النهضة المصرية العظام من أصحاب الفضل على المصريين وأشقائهم العرب، إننى أطالب مجلس الوزراء وكلية الهندسة بتنظيم احتفالية لتكريم هذا المعمارى الرائد، والاحتفاء بأفكاره التى جاء الرئيس السيسى لينفذها بعد قرن وعشر سنوات كاملة من ميلاده، كعلامة على أن الأفكار الأصيلة لا تموت، وعلى أن ما يقاتل الرئيس لتحقيقه ليس نزوة شخصية، ولا أفكارًا غير مدروسة، ولا انسياقًا وراء حلم غير ضرورى، ولكنه مشاريع هندسية حضارية طالب بها معماريون عظام، تم التعتيم عليهم وعلى أفكارهم فى عصور التراجع والتخاذل والانسحاق وآن أوان توجيه التحية لهم.