البعد الثقافى لتجربة مصر فى التنمية
توقفت كثيرًا أمام توجيهات الرئيس بنشر المكتبات فى مصر، التوجيه كان ضمن اجتماع بالمسئولين عن التخطيط العمرانى للقاهرة والمحاور الجديدة فيها، من الواضح جدًا أن المحاور والطرق ليست محاور فقط ولكنها شرايين حياة لمناطق جديدة، حول كل محور وطريق تنمو حياة جديدة ومدن وأسواق وحدائق ومجتمعات، هذه بديهية من بديهيات العمران لم يلتفت لها جنرالات المقاهى الذين اعترضوا على تعمير مصر وشق طرق جديدة تربط القديم بالجديد والدلتا بالصحراء والمدن الجديدة بالمدن الأكثر منها جدة.. تجربة التنمية المصرية الآن لا تخلو من بعد ثقافى واسع إذا اتفقنا أن الثقافة ليست هى الأدب أو المنتج الثقافى فقط.. الثقافة هى وعى بالحياة وبدور الإنسان فيها.. بهذا المعنى تتسم تجربة التنمية الحالية بهذا البعد وبالبعد الجمالى أيضًا.. هناك مثلًا رغبة فى إيقاف المبانى القبيحة والضئيلة التى تشوه وجه القاهرة.. هذه المبانى بنت ظاهرة تراجع فن المعمار فى مصر منذ السبعينيات وهى كذلك بنت فقر الإمكانات المادية نتيجة إقدام الأهالى على البناء بأنفسهم وعدم رغبتهم فى الإنفاق على واجهات العمارات ولا على تصميم معمارى لائق لها، هى كذلك بنت ظاهرة ازدياد الطلب عن العرض طوال العقود الأخيرة الماضية ورغبة المقاولين فى المكسب السريع والمبالغ فيه، وهى بنت انسحاب الدولة من دورها فى التخطيط والرقابة طوال العقود الخمسة الماضية، والنتيجة أنك تسير على الدائرى لترى على الجانبين عمارات تشبه علب الكبريت القبيحة والدميمة تحيطه من الجانبين، وكأن لدينا قاهرتين أو أكثر من قاهرة.. قاهرة خديوية تضم عمارات أجمل من عمارات باريس ومبانى عظيمة مثل برج القاهرة وماسبيرو ومجمع التحرير.. إلخ، وقاهرة أخرى قبيحة تضم مبانى عشوائية متقزمة ضئيلة وقبيحة، البعد الثقافى لتجربة التنمية هو الذى دفع الرئيس لإصدار قرار بإيقاف البناء العشوائى بهذه الطريقة الدميمة، وهو الذى دفعه للقضاء على العشوائيات التى تشبه البثور على وجه مصر، وهو الذى دفعه للتوجيه بنقل سكان العشوائيات لمساكن آدمية يدخلها النور والهواء وتحيطها الخضرة، جزء من هذه الدوافع اجتماعى وسياسى بكل تأكيد، لكن الجزء المكمل لها هو الدافع الثقافى الجمالى أيضًا، لأن الثقافة والمعرفة هى حق من حقوق الإنسان، وحرمانه منها جريمة، وهذه الجريمة تمت للأسف على مدى العقود الماضية، وكانت نتيجتها تمكن ثقافة التخلف من عقول الناس، كنت أقرأ للدكتور مصطفى محمود بعض مقالاته فى كتاب «الإسلام السياسى» فوجدته يقسم المقال إلى قسمين، فى القسم الأول يصب جام غضبه على ثورة يوليو وجمال عبدالناصر ويحمله فاتورة كل مشاكل مصر حتى وقت كتابة المقال «فى بداية التسعينيات» لكنه فى القسم الثانى يطرح الحل كما حدثه عنه صديقه المهندس الكبير سيد كريم، وهو معمارى كبير جدًا، خطط نصف عواصم العالم العربى ونصف مبانى القاهرة الكبرى فى الستينيات، إن الروشتة التى كتبها سيد كريم لعلاج مشاكل القاهرة فى الثمانينيات هى التى نفذها الرئيس السيسى حرفيًا منذ ٢٠١٤، والمؤسف أنها نفذت متأخرة ثلاثين عامًا على الأقل، لأن الموجودين فى السلطة لم يكن لديهم الرغبة فى تحدى الواقع وتحمل مسئولية التغيير، والمعنى أن التوسع الذى تقوم به الدولة حاليًا ليس فقط ضروريًا وأكثر من ضرورى ولكنه أيضًا ينطوى على بعد جمالى وحضارى يعيد للقاهرة قيمتها ومكاناتها وينعكس على إحساس أهلها بقيمتهم وبجمال بلادهم كما ينعكس على قيمة البلاد كوجهة استثمارية وسياحية تجتذب الآخرين لزيارتها والاستثمار والإقامة فيها.. هذا هو البعد الجمالى والثقافى الأول فى تجربة النهضة العمرانية الحالية، البعد الثانى يعبر عن نفسه فى العملية الضخمة لترميم القاهرة التاريخية وإعادة بناء ما تهدم من مبانيها على نفس الطرز التاريخية، ونقل الأنشطة غير الصديقة للبيئة، والحفاظ عليها كمركز تجارى وسياحى للحرف التقليدية والأنشطة السياحية، وترميم مساجد آل البيت التى بنيت حولها القاهرة الإسلامية ورفع كفاءة مرافقها، ونقل المناطق العشوائية مثل منطقة المدابغ خلف سور مجرى العيون وبناء وحدات سكنية وسياحية على طراز تاريخى من أروع ما يكون، نفس الأمر بالنسبة للقاهرة الخديوية التى يتم بناء واجهات عمارتها مرة أخرى، وتغيير لافتات المحلات فيها لتصبح متماشية مع الطراز التاريخى «وإن كان هناك بعض التباطؤ فى المشروع» إن كل هذه الترميمات والتطويرات تكشف عن بعد ثقافى وجمالى لتجربة التنمية المصرية يهدف لإعادة القاهرة لسابق عهودها المزهرة، وإظهار التنوع والغنى التاريخى فيها، واستثمار هذا التنوع فى مجالات السياحة والاقتصاد والثقافة، حيث يعرف العالم حاليًا «الاقتصاد البرتقالى» القائم على تحويل الثقافة لصناعة عالمية تدر الربح، ولا أظن أن هناك بلدًا فى العالم مؤهلًا لهذا النوع من الصناعة البرتقالية أكثر من مصر إلى الحد الذى يدفعنى للمطالبة بالتفكير فى أن تكون لدينا وزارة مستقلة للصناعة البرتقالية أو الصناعات الثقافية تصدر من خلالها للعالم السلع التراثية والمواهب الغنائية والفرق الموسيقية من خلال شراكة بين الدولة والمبدعين الذين سيتم اكتشافهم ورعايتهم وتسويق منتجاتهم فى العالم.
أما الملمح الثقافى الثالث لتجربة التنمية المصرية فيعبر عن نفسه فى عودة الدولة للاهتمام بالثقافة بعد طول انقطاع، وما أقصده هنا العودة للنزول بالثقافة للقرى والنجوع، وهى تجربة بدأها أبوالثقافة ثروت عكاشة عام ١٩٦٢ولم يكتب لها الاكتمال بعد التغيرات الاجتماعية فى السبعينيات، فغاب المثقفون وحضر المتزمتون وباعة ثقافة التخلف ومندوبو مبيعات الجهل لحساب الآخرين، الآن ومن خلال مبادرة حياة كريمة تعود «المكتبات المتنقلة» التى اختفت من مصر منذ التسعينيات، ويعود «كشك الكتاب» الذى هو عبارة عن مكتبة دائمة صغيرة فى كل قرية ونجع، وتعود مبادرة «ابدأ» المسرحية التى تهدف لاكتشاف مواهب الشباب فى الأرياف فى مجال المسرح وتدريبهم على مهارات هذا الفن العريق وغيرها من الفنون المرتبطة به، فى هذا الإطار لا يبدو غريبًا توجيه الرئيس بنشر المكتبات، وتخصيص مساحات فى المجتمعات الجديدة لإنشاء مكتبات جديدة سواء لبيع الكتب، أو لاستعارتها، أو للقراءة داخل المكتبة، وأظن أننا فى حاجة أيضًا لحملة تسويق شبابية تلقى الضوء على عدد من مكتباتنا العامة العريقة مثل مكتبة القاهرة الكبرى فى الزمالك، ومكتبة مصر على نيل الجيزة، ومكتبة دار الكتب والوثائق، وغيرها من المكتبات العامة التى توارت فى أزمنة تحتفى بكل ما هو رخيص وتهمل كل ما هو ثمين، مع أن هذه المكتبات هى أحد أصول قوة مصر الناعمة، وتتراكم فيها من الكتب ما لا تستطيع المليارات شراءه أو شراء ما هو فى قيمته.. وما أكثر من ينفقون المليارات بحثًا عن القيمة.. لكنها أشياء لا تشترى.. فقط لو عرفنا قيمتها وقيمتنا الحقيقية.