يكشفه الدكتور شوقي ضيف .. دور المطبعة في إيقاظ العقل المصري
اصطحب نابليون بونابرت، خلال الحملة الفرنسية علي مصر، ضمن ما اصطحبه من علماء وفنانيين الذين أنجزوا السفر الضخم “وصف مصر”، المطبعة، والتي رجع بها مرة ثانية إلي فرنسا بعد فشل الحملة.
إلا أن دخول المطبعة إلي مصر كان أولي قطرات الغيث التي أنهالت فيما بعد لإيقاظ العقل المصري من سباته الطويل خلال فترتي حكم المماليك والعثمانيين.
وفي كتابه “الأدب العربي المعاصر في مصر”، يذكر المؤرخ الأدبي الناقد الدكتور شوقي ضيف، أن البداية الحقيقية لإيقاظ العقل المصري عندما أسس محمد علي باشا مطبعة بولاق.
"عمد المشرفون علي مطبعة بولاق منذ تأسيسها إلي طبع الكتب العربية والتركية، كما كانوا يطبعون بها جريدة الوقائع المصرية، ولا نتقدم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتي تكثر المطابع ويكثر طبع الكتب العربية القديمة ودواوين الشعر العباسية وغير العباسية.
وكان لذلك تأثير واسع في حياتنا الأدبية، فإن أدباءنا أطلعوا علي هذه الكتب والآثار القديمة علي مثل ونماذج في الأدب العربي لم يكونوا يعرفونها، إذا كان كل ما يعرفونه من ذلك الآثار القريبة منهم المملوءة بالسجع وألوان البديع، فلما طبعت لهم “كليلة ودمنة” لابن المقفع وكتابات الجاحظ وابن خلدون وغيرهم. كما طبعت دواوين أبي تمام وأبي نواس والمتنبي وأضرابهم رأوا أساليب جديدة، أما في النثر فرأوا أساليب مرسلة خالية من التكلف والصناعة، وأما في الشعر فرأوا نماذج بسيطة ليس فيها عقد البديع وكلفه.
ــ دور المطبعة في تنشيط حركة التأليف والترجمة
ويلفت “ضيف” إلي الحراك الثقافي والأدبي الذي أحدثته المطبعة: "ولم تقف مطبعتنا العربية علي نشر الكتب القديمة ودواوين الشعر العباسية وإحيائها، بل أخذت تنشر في الناس الكتب الغربية التي يترجمها أعلام المصريين ممن حذقوا اللغات الأجنبية، وكانت كثرتها في النصف الأول من القرن الـ19 كتبا علمية، ولم تلبث أن زاحمتها في النصف الثاني الروايات والكتب الأدبية.
ويشدد علي أنه: "وهذان الطرفان من الكتب القديمة والكتب الأوروبية هما اللذان تعاونا في إحياء العقل المصري وبعثه في القرن الــ 19. ووما لا ريب فيه أن أصحاب الثقافة القديمة من المتون وشروحها والشعر الركيك المعقد قاوموا هذين الطرفين أو هذين العنصرين الجديدين، لأنهما يخالفان ما ألفوا من فكر وعلم ومن أسلوب مسجع معقد. ويمكن أن نركز أصحاب هذه الثقافة القديمة أو المأثورة في رجال الأزهر، فأنهم عدوا الجديد الأوروبي من بعض الوجوه مروقا من الدين، كما عدوا الأساليب الأدبية المرسلة ضعفا في اللغة وإسفافا. علي كل حال كانت المطبعة عاملا خطيرا في إيقاظ العقل المصري، ونتج عن ذلك أن الأدب والعلم في الأمم القديمة ومنها الأمة العربية كان محدودا بطائفة خاصة، بل كان محتكرا لها محصورا فيها، ومن ثم كانت الحياة العقلية والأدبية ضيقة الحدود.
فلما ظهرت المطبعة عملت علي نشر الكتب، وأصبح الكتاب الواحد يطبع منه مئات النسخ بل آلافها، فأتيح لجمهور كبير من الشعب أن يطلع عليه ويفيد منه، أولا لأنه يجده، وثانيا لأنه يكلف ثمنا بخسا. وبذلك أتسع تبادل الأفكار في العلوم والفنون والآداب، بل لقد أصبحت حقا مشاعا للجميع، ولم تعد حبيسة علي طائفة بعينها.
ويواصل “ضيف”: وفتحت في كل مكان المكاتب لبيع الكتب ونشرها، كما فتحت دور الكتب العامة أمام المتعلمين ليقرأوا فيها ما لا يقدرون علي شرائه. وكل هذا حدث في مصر مع ظهور المطبعة، فقد أنشأ علي مبارك في سنة 1870 دار الكتب المصرية، وزودها بالكتب في مختلف الآداب والعلوم والفنون، ولم يكتف بالكتب العربية، بل ضم إليها طائفة كبيرة من كتب اللغات الغربية، وحدد للدار أوقاتا في الصباح وفي المساء، يغدو ويروح إليها الشعب للقراءة والاطلاع، ووضع نظاما لاستعارة الكتب خارجها. وبذلك كانت ولا تزال جامعة شعبية كبري للثقافة والاطلاع العقلي الخصب.