صالة أورفانيللى.. رواية ترصد عالم اليهود المصريين من زوايا مختلفة
انتهيت من قراءة رواية «صالة أورفانيللى» للروائى الكبير أستاذ «أشرف العشماوى» فى طبعتها الثالثة الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية بعدد صفحات ٤٢٣ صفحة.
تعد تلك الرواية لقائى الثالث مع أعمال الكاتب بعد بيت القبطية وكلاب الراعى. ما لاحظته فى كتابات «أشرف العشماوى» أن رواياته تجمع ما بين البُعد التاريخى والبعد الاجتماعى، بمعنى طرح قضية اجتماعية قد تكون فى زمن مختلف مغلفة بأحداث تاريخية معينة ولكن لها أبعاد وإسقاطات سياسية واجتماعية حاضرة وأيضًا تنبؤات مستقبلية نستشفها من بين سطور الأحداث، وبالتالى فهى أصعب الأنواع الكتابية.«صالة أورفانيللى» تعرض تاريخ مصر من أيام الملك فؤاد حتى السادات مرورًا بفاروق وعبدالناصر. بل يمكن القول إن الكاتب اختزل صورة مصر فى قالب صالة مزاد. الرواية مغزولة بحرفية شديدة، باللغة العربية الفصحى البسيطة سردًا والحوار بالعامية الخاصة بتلك الحقبة التاريخية، وكان موفقًا فى انتهاج ذلك الأسلوب فى الكتابة، حيث ساعدت على زيادة التركيز والاندماج والسفر عبر الزمن إلى تلك الأيام بكل تفاصيلها.
الرواية مقسمة إلى ثلاث روايات داخلية عبارة عن سرد الثلاث شخصيات الرئيسية للحدوتة ذاتها من وجهة نظر كل منهم، دون إعادة ملولة بل بالعكس الرواية شائقة جدًا وأحداثها سريعة، بل لا تخلو صفحة فى الرواية من مفاجأة غير متوقعة، طريقة السرد الثلاثى خدمت الرواية فجعلت القارئ ملمًا بكافة تفاصيل الحكاية وكأنها رؤية ثلاثية الأبعاد، وكانت رسالة الكاتب بألا يوجد إنسان طيب تمامًا أو شرير تمامًا فكل منا له جانبه الجيد والخبيث ولكن بدرجات متفاوتة، فالضحية هى الجانى من منظور شخص آخر وكذلك الجانى عند شخص آخر هو الضحية.
«صالة أورفانيللى ومنصور» هى أكبر صالة مزاد فى مصر أبطالها الرئيسيون هم «أورفانيللى استيفان ألفينزى» الطليانى اليهودى الذى عاش عمره وعمر أبيه وجده فى مصر حتى أصبح مصريًا حتى النخاع، القاطن فى حارة اليهود ويعمل فى أرشيف وزارة التجارة، وصديق طفولته الوحيد «منصور التركى» المصرى المسلم القاطن فى حارة اليهود أيضًا ومنذ نعومة أظفاره أخذت منه الحياة طفولته وتربى على فنون الحياة وخداعها حتى أصبح يهودى الطبع أكثر من اليهود أنفسهم وصاحب فكرة صالة المزاد، و«أورفانيللى منصور أورفانيللى» ابن أورفانيللى الأب الذى من شدة حبه لصديقه منصور أطلق على ابنه اسمًا ثنائيًا مكونًا من اسمه واسم صديقه معًا، وهو الذى عانى الصراع الداخلى بما يحمله من جينات والده «أورفانيللى» وتعاليم «منصور» من رباه.
الرواية تظهر علاقة المصريين بمختلف دياناتهم وأسلوب حياتهم المتناغمة المتداخلة دون التفرقة فى مرحلة ما قبل ثورة يوليو، وأيضًا علاقة الشعب بالملك والحياة الاجتماعية العامة ثم التغير الرهيب والمخيف الذى حدث بعد ثورة يوليو، ذلك التغير الذى طال كل شىء من سلوكيات الأفراد واتجاهاتهم وظهور مصطلحات عنصرية تميز الآخرين بمسمى دينى أو سياسى مما أجبر آلاف اليهود على الهجرة خوفًا من إساءة المعاملة وأجبر آخرين ممن لا ملجأ لهم إلا وطنهم مصر بتغيير أسمائهم إلى أسماء مسلمة والتخفى وسط الشعب، كما تغيرت أذواق الناس وبدأ الاتجاه إلى القبح، كل ما هو جميل وعريق تشوه. الجهل بقيمة تاريخ بلد جعله يباع فى صالة مزاد برخص التراب.
فى «صالة أورفانيللى ومنصور»- التى هى رمز مصر- كانت تباع المقتنيات الفالصو على أنها أصلية ويتم خداع المشترى بحرفية، وذلك ظل قائمًا قبل وبعد الثورة فالفساد واحد فقط تغير شكل الفاسد ليس أكثر. بعد ثورة يوليو ظهر أمثال اليوزباشى «أحمد عيسوى» مجرد ضابط بوليس قبل الثورة وبعدها رئيس إدارة الحراسات والأموال المصادرة، لا يعرف شيئًا عن المقتنيات الملكية ولا الأراضى ولا المحلات التجارية ثم ترقى مكافأة له إلى جامعة الدول العربية ثم أصبح سفيرًا. شخصيات الرواية الفرعية مهمة جدًا كالأساسية حتى وإن صغر دورها، فالكاتب رسم الرواية كرقعة شطرنج كل شخصية لها دورها الهام والمؤثر على الأحداث، كل شخصية لها بعدها النفسى وتأثيرها فى خلق المزيد من الفهم لما بين السطور.
الرواية بديعة ومتكاملة الأركان حالة فريدة من الروايات الجالبة للعصف الذهنى، عصابة أخرى تنفك من على العينين.
ملحوظة صغيرة بهيرة فى عام ١٩٧٢ لا يمكن تكون خمسينية فبما أنها أكبر أساسًا من منصور فبالتالى من المفروض تكون سبعينية.