صابر رشدى يروى تفاصيل اللقاء الأخير بسعيد الكفراوى
لا شك في أن مَن عاصر واقترب من الكاتب القاص سعيد الكفراوي، راهب القصة القصيرة واحد أبرز فرسانها، يعرف تماما أنه من الحكائين الكبار الذي لم يكن يجرؤ أحد أن يوقف جريان سرده الشفاهي عن "القاهرة الخديوية والفاطمية وقاهرة الستينيات" كلما واتته الفرصة في الحديث عنها وهى فرصة مفتوحة أبوابها طوال الوقت، فهو من هؤلاء الذين عاصروا جيل الستينيات واقتربوا منهم واشتبكوا معهم بالاتفاق مرة والاختلاف مرات، أما القاهرة الخديوية والفاطمية فهو دائمًا يسير في شوارعها ويجلس على مقاهيها، ولم تكن تفارقه أبدًا نظرة الزهو والفخر بروح تلك المباني.
يمكن وصف سعيد الكفراوي بجبرتي المشهد الإبداعي المصري، فستجده في كل الأحداث الكبرى حاضرا، كان يحدثنا بمحبة كبرى عن الكبار وعظمتهم يحدثنا عن يوسف إدريس ويحيي حقى وطه حسين: "لدرجة أن لحظات الدهشة الأولي لا تغيب أبدًا مهما تكررت الحكاية، حتى الضحك الذي قد يتحول لابتسامة مع تكرار الحكاية إلاّ أنه مع سعيد الكفراوي يخرج هادرًا.
في الأيام الأخيرة قبل رحيله كان لمجايلية وأصدقائه الشاعر عبد المنعم رمضان والكاتب الروائي إبراهيم عبد المجيد والكاتب القاص صابر رشدي لقاء أخير مع راهب القصة والصديق في السطور القادمة يروى لنا صابر رشدي تفاصيل اللقاء الأخير مع سعيد الكفراوي.
يقول رشدي: "منذ شهر تقريبا، نشرت علي صفحتي صورة قديمة مر عليها أكثر من عام، لزيارة قمنا بها للعم سعيد الكفراوي الكاتب الكبير والصديق العزيز، بمنزله: الشاعر الكبير عبد المنعم رمضان. والصديق العزيز. رءوف عبدالحميد وأنا. حينها، ظن الكثيرون أنها صورة التقطت حديثا. بعدها، ومنذ ما يقرب من أسبوعين، عندما تقابلنا قال لي: وريني الصورة.
أعطيته الهاتف، بدا فرحا كطفل وهو يتأمل حفاوة الأصدقاء به. ثم راح يدقق في الصورة ويبتسم. من جهتي، لم تسعدني هذه الفرحة الغامرة التي سيطرت عليه. حركت داخلي مشاعر غامضة، إنه يقرأ التعليقات باهتمام غريب، عرفت حينها أى مدارات يذهب إليها هذا الشيخ الجميل. ولكني ابتلعت غصتي وصمت. نبهته إلى تعليق الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد. الذي كان يتمنى أن يكون معنا في هذه الزيارة.
اقترح علينا عم سعيد زيارته. نقضي يوم معه. إبراهيم عبد المجيد. عبد المنعم رمضان. رءوف عبدالحميد وانا.
كعادته يقوم رءوف بأعباء الرحلة بسيارته. ذهب إلى هضبة الأهرام. أحضر إبراهيم أولا. ثم مر على منعم بفيصل، ثم أتوا إلى بالجيزة لننطلق جميعا إلى هضبة المقطم منزل الكفراوي.
هناك، فوجئت برءوف يهبط من السيارة ويحضر من الحقيبة الخلفية سياج متحرك خاص بعبد المجيد ليستند إليه بكلتا يديه.
كانت مفاجأة محزنة، كنت أراه يستند إلى "عكاز" بيد واحدة بعد مشاكل ركبته. عندما أمسكت بيده ليتساند على صرخ. كتفه ممزقة، لكن الأربطة مخفية تحت القميص. وصعدنا الدرج بصعوبة.
عم سعيد كان في انتظارنا وحيدًا، منطفئا. الرجل ضئيل البنية أصلا، لكن الأمر يزداد تفاقما وزنه انخفض كثيرا. ١٧ كيلو كما حدثنا، وزاد عمره عشرين عاما على الأقل في الفترة الأخيرة، كنا في حضرة شبح دمره السرطان. لكن مع مرور الوقت وحديث الذكريات. وتناول قطع الجاتوه والشاى بحليب والقهوة والمياه الغازية. ومحبة رءوف له وقيامه بكل أعباء تقديم هذه الأشياء كابن له. إنه يحفظ تفاصيل البيت جيدا لكثرة تواصله معه.
الكفراوي أنهكه موت السيدة أحلام، زوجته الفاضلة، رحلت بهذا المرض اللعين أيضا، منذ عامين تقريبا. رحيلها أسلمه إلى الهم والانهيار الصحي. واستحالة استكمال المسيرة دون انتكاسات عميقة، ولحظات طافحة بالألم. كانا متحابين، ومتفاهمين على نحو فريد. قضيا معا رحلة الحياة في تناغم روحي يستحق التأمل.
في هذه الجلسة. لاحظت ملامح عم سعيد وهى تنبض بالحياة رويدا رويدا. الوجه يضىء مع ضحكاتنا المشتركة. ويسترد هذه السنوات التي أضافها المرض بقسوة على عاتقه. ذكرياته جميلة دائما. لا يسيء لأحد. الرجل واحد من كبار الحكائين في زمننا. يملك كاريزما سحرية في هذا الصدد، صعب مقاطعته إذا انطلق في الحديث بصوته الخفيض وأدائه العذب. بدأ الجميع التنافس في هذا الجانب الجميل من الحياة. كل يعرف اللحظة التي يبدأ فيها بالتقاط الخيط. أوقاتا قليلة. كانت مشاعره تتصاعد فرحة في ليلة مفعمة بالبهجة بدأ متوهجا مؤتلقا، لكن ثمة ومضات حزن خاطف كانت ترتسم على محياه بين حين وآخر. خاصة مع اقتراب رحيلنا عنه. كانت اللحظات تمر ثقيلة. وهو لا يريدنا ننصراف. امكثوا قليلا. كان يقول.
في النهاية. وعند ذهابنا. تساند إبراهيم عبد المجيد على منعم ورءوف. وأخذني عم سعيد إلى الشرفة الواسعة التي تطل أشجار ونباتات عطرة زرعها بنفسه بحديقة العمارة. قال بحزن: "لقد اتفقنا على هذا الأنتريه، أنا وأحلام ليكون جلسة مريحة بالشرفة لكن البائع أحضره بعد وفاتها بأربعة أيام".
كنت آخر من قام بتوديعه، شعرت بأنه يتمهلني. احتضنته، وقبلت جبهته، لمحت في عينيه المزيج المرعب لشعور الفقد والخوف من الوحدة، كان الانطفاء يرخي ظلاله مرة أخرى على هذا الوجه الطيب. والزمن ينحت آثاره العميقة. كانت اللحظة بأكملها تشي بأنه اللقاء الأخير.