رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شمع ورمال

منال رضوان            
منال رضوان            

هذا الكوخ الأنيق الذى يسكن سفح أحد الجبال، هنا.. حيث قرر المَثّال الشاب أن يقيم فى بلد أوروبى كان قد هاجر إليه قبل أعوام، كان وحيدًا دائمًا، لا يؤنس هذه الوحدة غير جوائز كثيرة تسكن خزانته الأنيقة، والتى كثيرًا ما كان يتأملها فى زهو شديد يشى بفرادة موهبته، أبدًا لم يكن تقليديًا فى تهيئته لأجساد منحوتاته، بل كلما تفاعل مع كتلة صماء، تشابك معها فى تحدٍ عجيب، بغية استنطاقها، وفى عناد هستيرى يمد يده نحو قطع متباينة الطبيعة تختلف عن طبائع الصلصال والبرونز والأرز والسنديان والبازلت، فتعيد أنامله النهشة تشكيلها فى إتقان يتماهى وحقيقة الموجودات من حوله، والتى يستلب مفرداتها بعينين شغوفتين، فيقنص جائزة جديدة، سرعان ما ترقد كمثيلاتها بخزانته الزجاجية.

وفى لحظات مرحه القليلة، كان يقوم بنحت فرائده على شاطئ المحيط، يظل منتظرًا تصفيق الجميع والتقاط عشرات الصور التذكارية إلى جانب تمثاله الضخم، قبل أن يقذف صدره بما جمعه من أصداف، فتغتال يده أسطورة جديدة من ملح ورمال، وينصرف عن الجميع ضاحكًا فى غير اكتراث.

كان أهالى البلدة التى ينزل إليها لقضاء لحظاته النزقة ينعتونه بغريب الأطوار، لكنهم يبادلونه التحية زائفة الود على أى حال، بل يحاولون التقرب إليه، طمعًا فى صنع تماثيل صيفية تسجلها ذاكرة هواتفهم النقالة.

لم يكن يبغض مجيئه غيرها، هذى العشرينية صاحبة دكان بيع شموع الأعراس، كانت تمتلك وجهًا ملائكيًا متقن الخطوط حد استنفار رغباته الشبقة فى تحسسه كلما رآها، لكنها أبدًا لم تمنحه الوقت الكافى للتطلع إليها، بل كانت تلقبه بـ«سارق الأرواح»، وكلما رأته انصرفت مسرعة محاولة إخفاء وجهها عن ذاكرته العنيدة، والتى جعلته يقرر أن يخوض تجربته القادمة. 

- ها هو يجلس أمام كتلة شمعية ضخمة استغرق تجميعها عدة أيام، كانت صماء مُصْمَتة؛ لكنها ستنبض بالحياة على يديه، سيدع تمثاله الجديد يخبرها كم هى جميلة بملامحها التى التقطها خلسة من وراء الشموع، سيظل محتفظًا بمعجزته الجديدة ولن يقبل انصهارها، إلى أن يحين موعد مسابقته القادمة.

- سأمنحها إياه، ذلك المجسم الضخم عقب حصولى على جائزة جديدة، سيروقنى رؤية كتلتها البلهاء تعود إلى سيرتها الأولى. 

تمتم وهو يبدأ مهمته، لكن حرارة الطقس وإهمال العامل الريفى فى إصلاح مبرد الهواء جعلاه يحاول إنجاز عمله فى توتر بالغ. 

قام بنحت الرأس، لم يستغرق منه ذلك وقتًا طويلًا، لكنه مكث ساعات أمام كتلته الأثيرة، يصنع لها صدرًا نابضًا ونهدين ناعمتين، هذا الخصر المكتنز يجيد نحت تفصيلاته بشىء من خبرة، كما كان يتحتم عليه إزالة بعض ندبات البطن الظاهرة، وإضافة بعض الانحناءات اللينة إلى أصابع يدها القابضة على الأخرى.

- يزداد الطقس سوءًا، لم أحصل من هذا الكسول على وعد أكيد بالمجىء.

ليلة واحدة وساعة من نهار تكفيان للانتهاء من امرأة الشمع.

- نعم.

لمرة أخرى، سأعاود الاتصال بذلك الشاب المتباطئ، كى يؤمن لها طقسًا يبقيها على قيد الحياة.. إلى حين.

- عقب انتهاء المكالمة، كان قد اطمأن، إذ حصل أخيرًا على وعد بإصلاح العطل مكنه من جلسة هادئة، وقد علت ملامحه الابتسامة الشاطئية غير المكترثة ذاتها، كان ذلك قبل أن ينتفض إثر رؤيته بقعات كثيرة من شمع سائل وقد ضمَّخت حذاءه الأنيق.