فلسفة مصر العربية
أعظم إنجاز للقمة العربية هو أنها ما زالت تنعقد، أنها صامدة كمؤسسة وفلسفة واختيار، أنها لم تتأثر بكل هذه العواصف والحروب والخطط والمؤامرات التى اجتاحت الوطن العربى كسيل هادر منذ ٢٠١١ وحتى الآن والله أعلم.. لقد كان هدف العرب دولة عربية واحدة تجمع ٢٢دولة، فإذا بالمؤامرات تستهدف كيان كل دولة من الـ٢٢دولة، بحيث أصبح أقصى أحلامنا أن نحافظ على الدول العربية موحدة من خطر التقسيم والتفتيت والحروب الأهلية والطائفية، وهو ما نبه إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته حين دعا للحفاظ على كيان الدولة الوطنية ككيان لحماية الشعوب وضمان الاستقرار، وحين حذر من خطر الميليشيات المسلحة التى هى نقيض الدولة الوطنية وأكبر خطر عليها وأداة طيعة فى يد من يريد تخريبها، على أن مصر التى ترى الوضع كله بإجماله وخباياه لم تكفر بعروبتها، كما بدا من كلمة الرئيس السيسى، بل إنه كان يبشر من بعيد بضوء فى نهاية النفق، فالدائرة العربية هى أقوى دوائر السياسة المصرية عبر الزمن، والعروبة ليست هى حلم الوحدة السياسية فقط الذى تنازعته الصعوبات والظروف، ولكنها أيضًا التكامل الاقتصادى الذى نرى له علامات، لكنه لم يصل إلى غايته المرجوة قط، وهى أيضًا التكامل الثقافى الذى يرقى لدرجة الوحدة، حيث اللغة واحدة، والفنون مشتركة، والآداب قريبة من بعضها البعض، وحيث الشعوب العربية تستهلك منتجًا ثقافيًا وفنيًا واحدًا تشترك فى صنعه، وهكذا ذكّر الرئيس القادة العرب بروح القومية العربية التى هى أشمل بكثير من الوحدة السياسية بمعناها القديم والكلاسيكى الذى تم إفشاله وشن الحروب عليه، وقال إن انعقاد القمة استلهام لروح القومية العربية التى حركت شعوب العالم العربى ذات يوم وجعلته على قلب رجل واحد، أما مبررنا للتكاتف والتوحد فهو فى غاية الواقعية وهو أن «التحديات تفوق قدرة الدول العربية منفردة على مواجهتها»، والمعنى أن الذئب يأكل من الغنم القاصية، وأننا كلما توحدنا ونسقنا فى المواقف والتحالفات استطعنا أن نقلل حجم خسائرنا وأن نضمن تأثيرًا أكبر فى هذا العالم المضطرم بالصراعات والملتاث بالحروب، على أن أهم ما قاله الرئيس فى كلمته أو ألمح إليه هو الأزمات الدولية العديدة على المسرح الدولى، وحدة صراعات الاستقطاب بين المعسكرات، ومالها من تبعات سلبية على الدول العربية وعلى الدول الراغبة فى أن تنأى بنفسها عن هذه الصراعات، هذا الاستقطاب والأزمات عبارة عن مخاض يتبعه تشكل نظام عالمى جديد، لا بد أن يخطو له العرب متكاتفين أو وهم على أكبر قدر من التنسيق والتجهيز والتعاون، ولم ينس الرئيس أن يضرب مثلًا بالتجمعات الاقتصادية الناجحة فى العالم والتى يجىء على رأسها الاتحاد الأوروبى الذى يضم دولًا حاربت بعضها عشرات السنوات حروبًا دامية أسفرت عن ملايين القتلى والجرحى وآثار الهدم والدمار، لكنها تجاوزت ذلك كله نحو التكامل والوحدة على أساس اقتصادى قبل كل شىء، وعلى أساس المصلحة المشتركة لشعوبها، وعلى أساس احتياجها لأن تواجه العالم بمعسكراته ككتلة واحدة، ولعل المسكوت عنه فى خطاب الرئيس أو ما لم يقله هو التعجب من حالنا نحن العرب الذين لم يكن بيننا من الحروب مثل ما بين هذه الدول ذات الألسن المختلفة والمذاهب الدينية المتضاربة، ومع ذلك لم نخطو نحو الوحدة أو التكامل إلا بأقل القليل.. ولا شك أن التدخلات الإقليمية فى الوطن العربى هى سر اشتعال النزاعات فى كثير من دوله التى تهدد بقاءها الحروب الأهلية وميليشيات المرتزقة. ولعل أكبر مثال على ذلك هو ليبيا الشقيقة التى يهدد وحدتها تدخل الدول الأجنبية الطامعين فى خيراتها، وهو ما نوه له الرئيس السيسى فى كلمته، إننى أرى أن مستقبل العمل العربى هو فى الوحدة الثقافية والاقتصادية وأطلب من مصر اقتراح تعيين كل دولة من الدول الأعضاء فى الجامعة العربية مفوضًا ثقافيًا رفيع المستوى ضمن مجلس خاص يتولى التخطيط للتعاون الثقافى ولتبادل الصناعات الثقافية بين الدول العربية، أما انعقاد القمم العربية والحفاظ على النظام العربى من الاندثار فى وجه هذه التحديات فهو مكسب واقعى ومعقول فى هذه الفترة العصيبة من عمر العرب والعالم ولعل المستقبل يحمل لنا خيرًا كثيرًا قادمًا بإذن الله.