الثورة اللازمة لتصنيع مصر (2)
أحد أوجه المشكلة المصرية أننا نتخيل أن كل شىء فى يد الدولة، وأن القرارات الرسمية كفيلة بحل كل مشكلة وبتغيير الواقع من جذوره، ولا شك أن الحكومات والنظم المتعاقبة أحبت هذه النظرة لها وربما صدقتها، وسعت لترويجها، وهى فكرة عبر عنها الكاتب العظيم وحيد حامد حين قال على لسان وزير ما فى فيلمه «عمارة يعقوبيان» إن «الشعب ماسك فى ديل الحكومة زى ما تكون أمه»!! وهى جملة عبقرية تكشف نظرة المصرى للحكومة وكيف أنها مسئولة عن طعامه وشرابه وعمله ونجاحه ومزاجه وسعادته الشخصية ما دامت هى الحكومة وما دام يقر لها بذلك ولا ينازعها فى سلطتها، ومن المؤكد طبعًا أن حسن الإدارة يساهم فى نجاح الدولة وفى انعكاس ذلك على أحوال الأفراد، لكن هذا لا ينفى أن «النهضة» عملية مشتركة بين الفرد والدولة، وأن كليهما يؤثر فى بعضهما البعض، وأنه لا نجاح بغير قيادة رشيدة وشعب رشيد أيضًا، وما دمنا نتكلم عن مبادرة ابدأ لتوطين الصناعة فى مصر وإطلاق عهد جديد من تصنيع مستلزمات الإنتاج فلنرجع إلى الماضى ونضرب مثلًا بالمصانع التى أسستها مصر فى الستينيات والتى كانت إضافة أكيدة للناتج القومى والاقتصاد الوطنى، ثم علينا أن نسأل هل حافظ المسئولون على هذه المصانع؟ هل طوروها كما يجب؟ هل اتبعوا قواعد الحوكمة فى إدارتها وفى التعيينات فيها؟ أم أثقلها بعضهم بالمجاملات وتعيينات أبناء العاملين وذوى القربى.. إلخ.. ومن الماضى إلى الحاضر ننتقل.. لقد أصدر الرئيس السيسى عدة قرارات مهمة لتشجيع الصناعة المصرية مثل الترخيص الفورى وتعهد الدولة بتوفير التمويل الفورى والدخول فى شراكات مع المصنعين مع ترك الإدارة لهم، وتعهده بحل كل المشاكل بنفسه وتعهده بالإشراف المباشر، وكل هذا جميل لأن النماذج التى تم اختيارها هى لتجارب صناعية نجحت بالفعل، ولكن نحن نريد أن ننشر ثقافة التصنيع فى المجتمع كله، نريد أن يقدم الشباب على نشاط التصنيع، سواء أولئك الذين يملكون رءوس أموال تسمح لهم بالبداية، أو الذين يملكون أفكارًا وخبرة ما يبحثون لها عن التمويل اللازم، ولكى نجد الكثير من هؤلاء فى قادم السنوات فإن علينا أن نبنى بنية ثقافية حديثة تسمح للمجتمع بأن يتحول لمجتمع صناعى، فالثقافة ليست الأدب والشعر كما يتخيل البعض، فلكى ننجح اقتصاديًا وصناعيًا يجب أن ننشر ثقافة احترام المبادرات الخاصة، والأفكار الجديدة، وأن نشجع أبناءنا على طرح أفكار ومبادرات جديدة حتى لو بدا بعضها غريبًا أو ساذجًا، إننى أتحدث وفى خلفيتى مدير صادفته فى إحدى مراحل حياتى كان نموذجًا للمدير متوسط الموهبة الذى لا يرحب بأى فكرة جديدة أو تميز ما، فإذا أحب أن يقلل من شأن أحد قال عنه «فاكر نفسه هيجيب التايهة»! أو «فاكر نفسه فيلسوف» والحقيقة أن هذا الرجل نموذج لعشرات الآلاف فى مجتمعنا، ممن يعادون الأفكار الجديدة والنجاح بشكل عام، فى حين أن أى شخص أضاف للبشرية كان ممن «يجيب التايهة».. فنيوتن حين اكتشف قانون الجاذبية وصاح وجدتها «جاب التايهة» وأرشميدس حين اكتشف قانون الطفو وهو يستحم «جاب التايهة» وغيرهما الآلاف من المخترعين الذين كان من حسن حظهم أنهم لم يصادفوا مثل هذا المدير الفاشل الذى ينشر ثقافة الفشل، نفس الأمر عندما تحلل عبارة مثل «فاكر نفسه فيلسوف» إنها عبارة لا تصدر سوى من شخص جاهل، فالفلسفة وجهة نظر فى الحياة، وكل شخص له وجهة نظر فى الحياة يعيش وفقها وإلا كان من الأنعام وفاقدى العقل، وهذه العبارة الشائعة هى تعبير عن سيادة الجهل والتطرف فى مجتمعنا بفعل فاعل لا يريد خيرًا لهذه الأمة، وعلينا أن نتخلص منها هى وأخواتها من العبارات والأفكار إلى الأبد، كما أن علينا أن نتخلص من ثقافة «إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه» وهى ثقافة ما زالت تسكننا وإن استبدلنا الوظيفة الميرى بالوظائف الخاصة، ومن ملامح ثورتنا الثقافية ونحن نسعى لتصنيع المجتمع أن ننتج أعمالًا فنية تجسد تجارب لصناعيين ناجحين فى تاريخنا، كما فعل أسامة أنور عكاشة حين قدم نموذج رجل الصناعة الوطنى «سليم البدرى» الذى كان جده عاملًا فى «الترسانة البحرية» التى أسسها محمد على باشا لتصنيع سفن الأسطول المصرى، وما لا يعرفه كثيرون أن شخصيات الليالى كلها مستمدة من نماذج حقيقية أضفى عليها الأستاذ أسامة سحر الدراما فخرجت كما رأيناها واستمتعنا بها، وكما قدمت الشركة المتحدة قصص البطولة والفداء عبر «الاختيار» و«هجمة مرتدة» فإن المساحة يجب أن تتسع لمسلسل يروى قصة بداية التصنيع فى مصر على يد محمد على وتطوره بعد ذلك فى صيغ وأشكال شتى، وأظن أن ذلك أصبح فرض عين على الشركة المتحدة بعد أن تشبعنا بمسلسلات تلبى رغبة الجمهور فى التسلية دون أن تساهم فى تغيير وعيه أو الارتقاء بتفكيره أو تغيير واقعه، إننا نريد أن يتعلم كل مصرى أن واجبه وبإمكانه أيضًا أن يقدم شيئًا ذا قيمة للمجتمع وللعالم، وأن هذا الأمر يجب أن يتخطى مجرد البحث عن الرزق- وهذا حق وواجب- للرغبة فى الإضافة للناتج القومى، فهناك فارق بين مواطن بسيط يريد أن يأتى ببعض الحلوى ليبيعها ويكسب منها وبين مواطن يجلس على نول يدوى لينسج سجادة يبيعها أو يصدرها عبر وكيل له، الأول بلا مهارة تذكر، والثانى صاحب «صنعة» يوصف بأن له يدًا تتلف فى الحرير، لذلك يركز مشروع حياة كريمة على تعليم أهل القرى الصناعات البسيطة والمهارات الاقتصادية، وهو ما أرى أن يحتل المرتبة الأولى فى الفترة القادمة، وأن يمنح أولوية عن الإنشاءات الصحية والخدمية رغم أهمية هذه المنشآت وضرورتها، إن الصناعة فى مصر تنقسم لثلاثة أنواع أولها هو الصناعات البدائية مثل النسيج اليدوى والجريد والتحف اليدوية وكل ما يوظف خامات البيئة مثل نسيج أخميم وغيره.. وقد رأينا الرئيس يشجع أصحاب هذه الصناعات ويشترى منهم، ورأينا الدولة تقيم لهم معرض تراثنا والإعلام يحتفى بهم، لكن المطلوب خطة منهجية تجعل كل قرية فى مصر تتميز بصناعة معينة من هذه الصناعات التراثية التى يمكن أن تتحول لمصدر مهم للعملة الصعبة مثلما السجاد الإيرانى اليدوى مصدر للعملة الصعبة، وهناك الصناعات الوسيطة وهى أكثر أنواع الصناعات انتشارًا فى مصر، ثم الصناعات المتقدمة التى تسعى الدولة لتوطينها فى مصر، وعلينا أن نقاتل لجذب المزيد والمزيد منها، وهو ما تبذل الدولة جهدًا كبيرًا من أجله خلال الفترة الماضية.. ولكن الحقيقة أن أى تغيير لا يشكل وعى الناس وطرق تفكيرهم فى الأمور لا يعول عليه ولعل هذا هو ما يجعل التحدى كبيرًا والعبء ثقيلًا، لكن هذه معركتنا الكبيرة التى لا بد أن نكسبها مهما كانت الصعوبات والعوائق فقد آن أوان الانطلاق وتغيير الواقع الصعب ونحن قادرون على ذلك بإذن الله.