الثورة اللازمة لتصنيع مصر
وسط جهود دءوبة للتعامل مع آثار الأزمة الاقتصادية العالمية، تأتى هذه الدفعة المادية والمعنوية التى تقدمها الدولة للصناعة المصرية وتبنيها للتصنيع، كأولوية أولى فى هذه المرحلة بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتى أولًا، والتصدير ثانيًا، والتعامل مع متغيرات الوضع العالمى وأزمة سلاسل الإمداد ثالثًا، وقد عبر هذا التبنى للصناعة والصعود بها لقمة الأولويات عن نفسه فى عدة خطوات لعل أهمها تأسيس مبادرة «ابدأ».. لدعم الصناعة المصرية وهى كما بدا من إعلانها عن نفسها مبادرة شبابية احترافية تقوم على تكوين شبكة معلوماتية واسعة حول الصناعة المصرية، والاتصال بشكل مباشر بالمصانع المصرية بمختلف مستوياتها، وطرح وتمويل مشروعات مشتركة، فضلًا عن إدماج هذه المصانع فى مشروعات «حياة كريمة» المختلفة وفق مبدأ «أولوية المنتج المصرى» بما يضمن لها عميلًا دائمًا وضخمًا لبضائعها لفترات طويلة وممتدة، وهو ما يساعدها على مزيد من المكسب والتوظيف والتوسع، وهى مبادرة تهدف للإضافة لمجهودات الطرق والقنوات التقليدية الموجودة لدعم الصناعة وتتميز بالروح الشبابية والاحترافية والإحساس بضرورة أداء مهمة إنعاش الصناعة المصرية كمهمة وطنية لا كمجرد وظيفة بيروقراطية، وهى إضافة لسلسلة مبادرات شبابية فارقة أثبتت نجاحها وقدرتها على الإنجاز والجمع بين الاحترافية والمهنية وبين الحس الوطنى الذى يعبر عن خدمة مصر بالعمل لا بالكلام، وإلى جانب المبادرة التى رأينا نتاج عملها بعد عام كامل من بدء هذا العمل، والذى تم برعاية الرئيس ومتابعته، يأتى أيضًا قرار الرئيس بمنح الرخصة الفورية للتشغيل لكل من يتقدم بها من أصحاب المصانع لفترة تجريبية مدتها ثلاثة أشهر، وهو قرار يختصر رحلة طويلة من الموافقات والتراخيص والتوقيعات كان يقضيها أصحاب المصانع قبل الحصول على رخصة التشغيل، وحتى نكون منصفين فهذه القضية يختلط فيها الحق بالباطل، فالموافقات السابقة على التشغيل قد تكون وسيلة للتعنت والابتزاز إذا كان الموظف المسئول فاسدًا والمصنع مستوفيًا شروط السلامة والجودة، ولكنها فى نفس الوقت قد تكون وسيلة لضمان جودة المنتج واستيفاء شروط الأمن الصناعى إذا كان صاحب المصنع لم يستوف الاشتراطات اللازمة، والحل هو أن تمنح الوزارة المختصة الترخيص الفورى مع اشتراط استيفاء كل ما هو ناقص خلال فترة ستة أشهر من العمل، بمعنى أن الدولة لم تمنع من يرغب فى أن يعمل على الفور، وفى نفس الوقت لم تتنازل عن اشتراطات السلامة والجودة، وأظن أن رئيس اتحاد الصناعات كان منصفًا وهو يتحدث عن أن ما تقدمه الدولة للمصنعين ليس فقط التسهيلات الضريبية أو سرعة الإجراءات ولكن أيضًا المناخ العام الآمن والمستقر سياسيًا وإمدادات الطاقة من الغاز والكهرباء التى وفرتها الدولة عبر استثمارات ضخمة وجهود كبيرة تحدث عن بعضها الرئيس من قبل، ولا شك أن كلا الطرفين «الدولة ورجال الصناعة» يكملان بعضهما البعض، حيث رجل الصناعة والزراعة أيضًا هما النموذج المثالى للمستثمر الحقيقى الذى يضيف للناتج القومى ولفرص التوظيف.. إلخ.. لكن الحقيقة أن الاهتمام بالصناعة له أبعاد أكثر عمقًا وأكثر أهمية من تلبية الاحتياجات وسد نقص الواردات، وهو البُعد الاجتماعى والثقافة لتحول المجتمع إلى مجتمع صناعى، فالمصنع شأنه شأن المدرسة والجامعة والقوات المسلحة مؤسسة من مؤسسات تربية الفرد، فالمصرى الذى يلتحق بالعمل فى مصنع يتحول لإنسان منظم، يعمل فى أوقات محددة، ويلتزم بقواعد العمل وعلاقاته، ويخضع للوائح الثواب والعقاب، ويتحرى الدقة فى عمله لأن الصناعة قائمة على الجودة وتلافى العيوب والابتكار للتفوق على المنافسين وهى كلها مواصفات عكس مواصفات «المواطن اللمبى» وهو النموذج الذى تم ترويجه ليصبح نموذجًا للشباب المصرى، الذى لا يعرف ليله من نهاره، ولا يملك مهارة معينة، ويقضى وقته فى تناول المخدرات والبلطجة إلى أن يقضى الله أجلًا كان مفعولًا، ولأن الصناعة هى عملية تغيير شاملة للمجتمع وتكوين المواطن فيه، وشكل العلاقات بداخله فإننا بحاجة لثورة ثقافية تؤهل الإنسان المصرى للنجاح فى الصناعة وهذه الثورة تقوم أول ما تقوم على احترام العلم والاهتمام بالبحث العلمى، فكل صناعة بدون بحث علمى لا يعول عليها، فأنت تشترى جهاز محمول جديدًا لأن به خاصية جديدة دفعتك لشرائه، هذه الخاصية هى نتيجة البحث العلمى، نفس الأمر مع السيارة، أو الأجهزة المنزلية.. إلخ وقد تعرضت مصر لسنوات قاسية من التخريب تم تعليم الأجيال الجديدة فيها أن «العلم لا يكيل بالبتنجان»!! وسادت فيها ثقافة دينية مختلفة تعادى العلم ولا تفهمه وأظن أنه مضاد للدين، وتسعى لتوظيف الدين بتفسيره بنظريات علمية متغيرة ولا علاقة لها به ولا علاقة له بها، وبالتالى فإن البنية الثقافية للتصنيع هى أن نشيع فى المجتمع حب العلم كقيمة وكوسيلة لتقدم البشرية وأن نضمن ذلك فى مناهجنا الدراسية، وأن نهتم بالبحث العلمى كمؤسسات وأفراد وأن نعيد الاعتبار للعالم أو الباحث العلمى وتمنحه وسائل الإعلام ربع الاهتمام الذى تمنحه لمطربى المهرجانات وفنانات الترند ومشاجرات رؤساء الأندية، إننا فى هذه المرحلة الدقيقة من عمر الاقتصاد العالمى والمصرى بالتبعية لا نملك سوى أن ننظر للأمام ونضاعف العمل ونلتزم الاحترافية والمهنية لأقصى درجة ممكنة وأن نواصل هذا الجهد الدءوب الذى يقوم به الرئيس الذى أطلب منه أن يكون ملف الصناعة هو مسئوليته الرئيسية طوال العامين القادمين بعد أن أوشكت مشاريع الطرق والمدن الجديدة على الانتهاء وظهرت ثمارها للجميع واضحة.. ولم يبق إلا مضاعفة صادراتنا الصناعية خلال عامين اثنين كهدف قومى نضعه نصب أعيننا ونسعى له كل بقدر طاقته لأننا لا نملك سوى العمل والثقة بالله سبحانه وتعالى وكفى بالله نصيرًا إنه نعم المولى ونعم النصير.