زهرة البلقان (3).. مُجمع الأديان.. كيف تلمس التسامح الديني في بلغاريا؟
عندما أعطى الله لشعوب العالم أراضيهم، فقد نسي البلغار، ولأنه لم يتبق لهم أرض، مزق لهم قطعة من الجنة"، هكذا تقول حكمة بلغارية.
جمال الجبال والتلال والمساحات الواسعة الخضراء صيفاً والمكسوة بالثلوج البيضاء شتاء والمباني العتيقة ليست فقط ما يميز بلغاريا.. ثمة شيء ستلمسه بقوة وبسرعة وبدون أي مجهود وهو "التسامح الديني" بإمكانك أن تكون أي شخص من أي خلفية وأي لون وأي عرق وتعتنق أي ديانة، وستتسامح معك بلغاريا، وسيعاملك أهلها بلطف..
تسامح ديني
الطرق البرية الرئيسية من أوروبا إلى الشرق الأوسط وآسيا تمر عبر بلغاريا، بفضل هذا الموقع، كانت أراضي البلاد موضع اهتمام العديد من الشعوب التي تركت تأثيرها على الأرض.
تنتشر بقايا الحضارات المختلفة في جميع أنحاء بلغاريا ولا يزال من الممكن رؤيتها حتى اليوم، من مقابر الملوك التراقيين الأقوياء، مروراً بمسارح الإغريق القدماء وملاعب الإمبراطورية الرومانية، إلى قلاع العصور الوسطى لملوك الإمبراطورية البلغارية الأولى والثانية، والمساجد من الحكم العثمانيين؛ ورغم التاريخ الصاخب إلا ان التسامح سمة لافتة!
البلغار لا يكرهون العرب، وليست لديهم صور نمطية سيئة عن المسلمين، بل على العكس يدركون القواسم المشتركة من التاريخ، فقد كنا يوماً جميعاً تحت الحكم العثماني. في أحد محال الطعام في صوفيا: طلبت إحدى المُعجنات وشددت أن تكون خالية من "لحم الخنزير"، فابتسمت البائعة وقالت: أنتي مسلمة، أجبت نعم، ابتسمت ورحبت بي، ليست هي الوحيدة، كل من طلبت منهم تجنب الخنزير ابتسموا ورحبوا، وكل من عرفوا أني مصرية، بدأوا معي حديث لطيف، وهناك من أرسل تحيات لـ " محمد صلاح"!
مجمع الأديان
النموذج الأبرز في نظري للتسامح الديني، الذي لمس قلبي وربت على كتفي وأشعرني أني في "بيتي" كان في وسط صوفيا، مربع واحد تشعر فيه بالسلام والأمان، نموذج لما يجب أن يكون عليه العالم كله. هم يسمونه "سنتر صوفيا" وأنا اسميه، مجمع الأديان أو ميدان التسامح. يوجد به مسجد "بانيا باشي" وكاتدرائية القديس جوزيف وهي تتبع الكنيسة الكاثوليكية، والمعبد اليهودي الذي يسمى "معبد صوفيا"، وعلى مقربة منهم أيضاً الكنيسة الأرثوذكسية، يفصل بينهم مترات قليلة، ينظران لبنعضهم البعض في ساحة واحدة، وكلهم أبوابهم مفتوحة للزوار. يمكنك دخول أي كنيسة أو جامع أو معبد دون ريبة، ودن شكوك مبالغ فيها، إذا كنت مسلماً وقررت زيارة المعبد اليهودي لن يكون هناك ما يوقفك، وإذا كنت مسيحياً وقررت زيارة المسجد لن تجد من يمنعك، كل الأبواب مفتوحة أمامك، بإمكانك أن تكون في أي مكان، دون اشتباه ودون شكوك ودون مضايقات، قضيت ساعات اتنقل من المسجد إلى الكنيسة إلى المعبد، وأنا أتساءل: من أي جاء هذا التسامح؟
الحرية الدينية
مع إصلاحات التسعينيات، في أعقاب الفترة الشيوعية، تأسست حرية الدين في بلغاريا، وأصبحت لا توجد ديانة رسمية، ومعظم المتدينين البلغار من أتباع الكنيسة البلغارية الأرثوذكسية.
تشمل الجماعات الدينية الأقلية المسلمين والبروتستانت والكاثوليك واليهود والأرمن الجريجوريين. ضمن الأقلية البروتستانتية يوجد مسيحيو الإرسالية العظمى، الخمسينية، والإنجيلين، فيما تنتمي الأقلية الكاثوليكية إلى الكنيسة البلغارية الكاثوليكية.
معظم البلغار هم من الأرثوذكس الشرقيين، فإن عيد الميلاد هو شأن ديني، لذلك تحتفل بلغاريا في 25 ديسمبر بيوم عيد الميلاد، وفقًا للتقويم الجريجوري. يمكن رؤية ترانيم عيد الميلاد السلافية التقليدية، المعروفة باسم كوليدوفان باللغة البلغارية في الشوارع، الشباب والفتيات يقيمون الرقصات البلغارية الشعبية في الميادين الكبيرة، والجميع يرقص ويحتفل، كنت بينهم في لحظات لاتنسى!
بعد الغروب تدق الكنائس في مشهد مهيب معلناً بدأ الاحتفال الديني، وبعدها تصبح الشوارع خاوية تماماً، أين ذهب البلغار؟ سألت صديقي العربي المُقيم هناك، أجاب: البلغار لديهم طقوس دينية خاصة يوم الميلاد، احترام العائلة وصنع الأطباق المميزة شيء لا يمكنه تجاهله، هذه المناسبة للعائلة أما الاحتفالات الصاخبة تكون يوم رأس السنة.
يمكن تتبع مجموعة متنوعة من التقاليد الدينية في بلغاريا في مواقع التراث العالمي لليونسكو، من مقابر عبادة التراقيين في القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد بالقرب من قريتي Sveshtari و Kazanlak إلى تمثال فارس مادارا بالرب من Shumen الذي يرمز إلى تحول بلغاريا إلى المسيحية في القرن التاسع. ودير ريلا الذي تأسس في القرن العاشر على يد القديس يوحنا ريلا، الذي طوبته الكنيسة البلغارية الأرثوذكسية، في حين أن كنائس إيفانافو المحفورة في الصخر في الشمال الشرقي تعود إلى القرن الثاني عشر. تتميز كنيسة بويانا التي أقيمت خارج صوفيا في القرنين العاشر والتاسع عشر بأعمال فنية دينية من العصور الوسطى، في كل مكان هناك أثار لها قصص وحكايات.
إنقاذ اليهود
التسامح الديني في بلغاريا ليس ثقافة ما بعد الشيوعية، هو ضمن جينات "البلغار" من قبل ذلك، التاريخ يشهد، فخلال الحرب العالمية الثانية، أنقذت بلغاريا والتي كانت في حينه حليف لألمانيا النازية في الحرب جميع اليهود البلغاريين البالغ عددهم 50000 تقريبًا من الترحيل، بعد الحرب هاجر حوالي 48000 من يهود بلغاريا إلى إسرائيل لم يتأذى يهوداً في بلغاريا أثناء الحرب، ولم يذهبوا إلى معسكرات النازيين، ولم يكونوا في المحرقة، بلغاريا أنقذت يهودها!
في وسط صوفيا، يوجد نصب تذكاري محفور عليه "نجمة داوود" ليذكر البلغار بما فعلوه، وليدينوا ما فعله النازيين، وليذكر العالم بما يجب أن يكون عليه الإنسان.