تجديد الخطاب الاجتماعى
كعادته دائمًا كان الرئيس السيسى واضحًا ومباشرًا وصريحًا فى عرض القضايا التى تعوق خطته للإصلاح، وكان من بين ما طرحه أن بعض مؤسساتنا لا تقوم بدورها المطلوب منها فى دفع المجتمع نحو مزيد من التقدم لأسباب تتعلق بالحساسية الشخصية لبعض مسئوليها أكثر مما تتعلق بخلاف موضوعى حول جوهر القضايا، وقد دخل الرئيس إلى جوهر الأمر مباشرة حين طلب تنظيم مؤتمر ترعاه الدولة ويستضيف مفكرين ورجال دين مسلمين ومسيحيين لمناقشة ما أجتهد وأسميه «تجديد الخطاب الاجتماعى» وليس تجديد الخطاب الدينى، ولعلنا نتفق جميعًا على أن هدفنا من إصلاح الخطاب الدينى ليس هدفًا مجردًا، فنحن لسنا رجال لاهوت، ولكن انشغالنا بالخطاب الدينى هو انشغال بتأثيره على حال المجتمع ومساهمته فى تقدمه ونموه، لذلك فإن طرح أفكار عامة مثل عدم حجية بعض كتب الحديث، أو ضرورة إعادة فتح باب الاجتهاد لمن يملك شروطه... إلخ يبدو مثيرًا لقلق المؤسسة الدينية ولردود أفعالها الدفاعية أكثر مما يحرضها على الإصلاح.. وما أراه مجديًا هو أن نطلب من رجال الدين أن يعطونا منتجًا نهائيًا ونترك لهم طهيه على طريقتهم داخل مطبخهم وفق آلياتهم.. بمعنى أننا كمثقفين ورجال سياسة نتفق جميعًا على أن البعض يستخدم النصوص الخاصة بالمرأة فى القرآن والسنة فى غير موضعها، وبالتالى نحن نطلب صياغة خطاب «اجتماعى» أو «ثقافى» أو «أخلاقى» جديد نحو المرأة المصرية.. هذا الخطاب الذى نطلبه ونسعى له يوجد الخطاب الدينى فى القلب منه، لذلك فإن المؤتمر الذى اقترحه الرئيس ربما يكون هدفه صياغة خطاب جديد نحو المرأة أو قضايا الأسرة، ولا شك أن أحد مكونات هذا الخطاب الاجتماعى الجديد هو الخطاب الدينى الذى سيقدمه الأزهر كمساهمة فى هذا المؤتمر «الاجتماعى»، متضمنًا اجتهاداته نحو قضايا القوامة والضرب والإنفاق والمشاركة فى الثروة، هذه التفسيرات التى يتسم بعضها بالاستنارة موجودة بالفعل، وهى تنطوى على تفسيرات مستنيرة قدر الإمكان لما هو موجود فى التراث دون فتح باب الاجتهاد، أو استنباط أحكام جديدة، وهذا مكسب لا بأس به فى الفترة الحالية، والفكرة الجديدة فى المؤتمر «الاجتماعى» الذى يحضره ممثلو الأزهر والإفتاء والكنيسة هى إدماج الخطاب الدينى مع الخطاب الاجتماعى، والقانونى والحقوقى والتقدمى تجاه الفضائل الاجتماعية تحت إطار تطوير الخطاب الاجتماعى، وفى ظنى المتواضع أن هذه المؤسسات الدينية ستسعد جدًا بهذه المشاركة فى مؤتمر تجديد الخطاب «الاجتماعى»، لأن هذا يوافق طموحها وفكرتها عن نفسها ورغبتها فى التأثير فى المجتمع بشكل أكبر، لكنها فى مقابل هذا ستجد نفسها ملزمة بتقديم خطاب دينى معتدل ومستنير، ويلقى قبول الأطراف الأخرى التى ستجلس معها لصياغة هذا الخطاب المشترك تحت عنوان «الإصلاح الاجتماعى»، ومن ثم فإن على مؤسسة الحوار الوطنى أن تترجم دعوة الرئيس للمؤتمر بوضع جدول أعمال يهدف لصياغة خطاب اجتماعى جديد تجاه قضايا مثل «الزيادة السكانية والمرأة والمواطنة وقبول الاختلاف» يشترك فيه ممثلون للأزهر والكنيسة والإفتاء، إلى جانب الجامعات والمؤسسات الثقافية وكبار المثقفين لصياغة خطاب اجتماعى جديد يكون الخطاب الدينى أحد مكوناته، وأظن أن دعوة الرئيس لهذا المؤتمر لا تكتمل دون إقدام وزارة الثقافة على إعادة طباعة مؤلفات رموز الإصلاح الدينى، فى الفكر المصرى.
من المهم جدًا تذكير المجتمع برموز الإصلاح من داخل المؤسسة الدينية مثل الإمام محمد عبده والشيخ مصطفى المراغى والشيخ مصطفى عبدالرازق والشيخ محمود شلتوت والشيخ عبدالمتعال الصعيدى، على أن يكون هناك نوع من الإبداع فى إعادة طرح أفكارهم مثل تكليف كاتب موهوب بصياغة كتاب جذاب عنهم جميعًا، أو تأليف كتاب يجذب المواطن الشاب عن كل منهم، أو إنتاج حلقات تسجيلية عن كل منهم، إن هذا يؤكد لنا جميعًا، وللمواطن العادى، وللمسئول الدينى أيضًا، أن الإصلاح فكرة لا تعارض الدين وإلا لما طرحها كبار أئمة الأزهر ومشايخه، وبالتالى فإن النشر عن هؤلاء المصلحين ينفى التعارض بين المطالبة بالإصلاح وبين الغيرة على الدين، ويُبطل مقولات المتطرفين حول هذا الموضوع، ويحث أبناء الأزهر أنفسهم على الاقتداء بأسلافهم العظماء من المشايخ، ويحثهم على اتخاذهم كقدوة لهم، مع الأخذ فى الاعتبار أن الاحتفاء برموز الإصلاح فى المؤسسة الدينية تراجع فى الأربعين عامًا الأخيرة مع تصاعد تيارات التطرف الدخيلة داخل المجتمع المصرى وداخل المؤسسة الدينية نفسها، وبالتالى فإن الاحتفاء برموز الإصلاح هو قضية وطنية قبل أن يكون قضية ذات علاقة بإصلاح الخطاب الدينى.
وفى هذا الإطار من المهم جدًا مد يد التعاون للإخوة فى وزارة الأوقاف فى المملكة العربية السعودية وإمدادهم بأعمال أئمة التنوير العظام، مساهمة فى عملية إصلاح الخطاب الدينى التى تقوم بها المؤسسة الدينية هناك على قدم وساق.
ولا بد أن نؤكد فى مسعانا للإصلاح على علو مكانة الأزهر الشريف، وكونه مؤسسة مصرية تاريخية لها بُعد إسلامى يهم الأمة الإسلامية كلها، لكنها أيضًا ملك للوطن بمعناه العام، وبهذا المعنى فإن الأزهر أكبر حتى من أبنائه والعاملين فيه كمعنى تاريخى ورمز مصرى، إننى أنتظر على أحر من الجمر هذا المؤتمر الاجتماعى الثقافى الذى سيعرض فيه رجال الدين اجتهاداتهم فى قضايا المرأة والزيادة السكانية والأخلاق وإتقان العمل، دون تدخل من أحد فى عملهم، أو اجتهادهم الخاص إلا بقدر ما يناقش المهتمون بأمر الدين علماءهم ويسألونهم فى أموره المختلفة وينتظرون منهم أن يجيبوهم، بما يؤكد أنهم أمناء على رسالتهم تجاه الناس وتجاه الدين معًا.