المؤتمر الاقتصادى.. انفتاح ثانٍ على أسس سليمة
شرح المسئولين للسياسات الاقتصادية وجعل المواطن والمستثمر شريكًا فيها أولى خطوات النجاح لا بد من سياسات لتشجيع أكبر مائة شركة قابضة فى مصر على الاستثمار فى الصناعة والزراعة مقابل تسهيلات فى مجال عملها الأساسى
قدر مصر الآن أنها تُعيد فعل كل ما كان يجب فعله خلال خمسين عامًا ولكن على أسس سليمة، عندى اجتهاد يقول إننا فى الماضى فعلنا كل شىء صحيح بطريقة خاطئة!
بنينا القطاع العام العملاق والمصانع العظيمة لكننا بعد فترة أثقلناه بالمحسوبيات والوسائط والفساد وسوء الإدارة حتى خربناه وحوّلناه من سند للتنمية إلى عبء على ميزانية الدولة ما دام سيظل على صورته الحالية، وأظن أن الرئيس السيسى حاول أن يضيف لأصول الدولة عشرات الشركات الجديدة تتم إدارتها بطريقة محوكمة وفق اقتصاد السوق وآليات الربح والخسارة ويتم التخطيط لطرح بعضها لاكتتاب الناس فى البورصة وفق لوائح شفافة وميزانيات معلنة، وكان من القرارات الصحيحة التى أظن أننا نفذناها بطريقة خاطئة قرارات الانفتاح الاقتصادى عقب حرب أكتوبر والتى وضع تفاصيلها رئيس الوزراء د. عبدالعزيز حجازى، الذى قيل إنه كان أول من اعترض على الطريقة التى نُفذت بها قراراته وانسحب! فقد اندفعنا للاستهلاك بدلًا من التركيز على الادخار والإنتاج، وأسسنا مصانع البطاطس واللبان وأغلقنا مصانع السيارات! وسافرنا إلى الخليج نجمع العملة الصعبة ونبددها فى أجهزة وملابس وشاليهات بدلًا من أن نستثمر مدخرات المغتربين فى الصناعة ومشاريع الإنتاج، ونزلت الأموال إلى الأسواق لتسبب حالة تضخم لم تشهدها مصر من قبل وقتها بدلًا من أن توضع فى البنوك لتمول بها المشاريع الصناعية والزراعية، وكانت الدولة عاجزة عن التخطيط للاستثمار حتى تصدى لقيادة الاقتصاد أصحاب شركات توظيف الأموال وهم باعة سندويتشات وتجار عملة وضعهم الإخوان كواجهة سيطروا من خلالها على الاقتصاد! وكان اللافت أنهم يلتقطون الصور الضاحكة مع رئيس الدولة ويستخدمونها فى الترويج لمشاريعهم والإعلان عنها.. وكان كبار المسئولين يعملون فى خدمتهم.. حتى إن وزير داخلية سابقًا يحمل أسرار البلد كله فى رأسه كان يعمل موظفًا عند أحدهم! وقد استغرق الأمر سنوات من الضياع الاقتصادى والركود حتى حدثت المعجزة بعد حرب الخليج الأولى بفضل الجيش المصرى والدولة المصرية.. وسمعنا كلامًا عن التصنيع ورجال أعمال جدد.. لكن معظمهم دخل فى دوامة الفساد والقروض والربح السريع وأغلق مصانعه وتفرغ للاستثمار العقارى على أراضى الدولة بالمجان! وهكذا عدنا بخفى حنين واستلزم الأمر ربع قرن من الضياع حتى نشهد معدلات نمو معقولة ضيعها الظلم الاجتماعى والصلف والفساد وشيخوخة الحكم ومحاولة فرض التوريث دون اقتناع الناس ولا ترحيبهم ولا إحساسهم بأن عوائد النمو وصلت أو ستصل إليهم.. تولى الرئيس السيسى ليجد البعض يريد أن يستخدم الثروة كأداة للسيطرة وتحقيق مزيد من الثراء لا مزيد من العمل والتنمية، انخرطت الدولة فى مشاريع للتنمية تهدف لمعالجة آثار الماضى وفى استثمارات طويلة المدى.. وفى مواجهة عنيفة مع الإرهاب ومع الدول الداعمة له، وانتهت المواجهات بنصر أكيد لمصر، ومع النصر كانت رياح الأزمات الدولية الممتدة والمعقدة تحرمنا من التمتع بثمار ما حققنا نحن وغيرنا فى أنحاء العالم وإن كان كل بلد يعانى بطريقة مختلفة.. انتقلت ثورة ٣٠ يونيو من مرحلة التأمين والمواجهة إلى مرحلة التمكين والتفرغ للتنمية، وفى الاقتصاد كما فى السياسة كانت الطريقة واحدة، أداء يتميز بالحساسية للمتغيرات، والتجاوب معها، ورسم الخطط المستقبلية التفصيلية، واتخاذ القرارات السريعة لحل أى مشاكل قد تظهر أثناء العمل، وعلاج الآثار الجانبية لأى قرارات يتم اتخاذها للمصلحة العامة، وهكذا أعلن الرئيس فى آخر إفطار للأسرة المصرية فى رمضان الماضى حزمة متكاملة لسلسلة قرارات اقتصادية وسياسية معًا، تكمل بعضها بعضًا، فعلى مستوى السياسة تمت الدعوة للحوار الوطنى والتوسع فى الإفراجات بعد أن وضعت المواجهة مع الإرهاب أوزارها أو كادت، وعلى مستوى الاقتصاد كان الإعلان عن طرح أصول الدولة القديمة والجديدة لمشاركة القطاع الخاص بمبلغ مستهدف عشرة مليارات دولار سنويًا، وعن وثيقة ملكية الدولة التى ترسم للقطاع الخاص خريطة استثمارات لا يخشى فيها من منافسة الدولة له عبر شركاتها، ثم كان الإعلان عن طرح شركات مملوكة لمؤسسات الدولة المختلفة فى البورصة لتكون فرصًا استثمارية تضاف للاقتصاد المصرى ويمكن للمستثمر الصغير والمتوسط أن يحقق أرباحًا إذا اشترى أسهمها، وهى خطوة ستعقبها خطوات أخرى أوسع، حيث أسست الدولة لاستثمارات لا يمكن لغيرها أن يقدم عليها، وحققت هدفها بتوفير الخدمة لمواطنيها، وقد حدث هذا مثلًا فى مجال الكهرباء، وقد حققت الدولة هدفها وزيادة، ولا مانع من أن نفعل مثلما يفعل العالم كله ونطرح جزءًا من ملكية المحطات فى البورصة لأنها مشاريع رابحة ومؤسسة بشكل جيد جدًا، ثم كانت خطوة الرئيس بالدعوة للمؤتمر الاقتصادى الذى تم افتتاحه اليوم الأحد بينما أنت تقرأ هذه السطور، وهو ينعقد بناء على دعوة الرئيس السيسى ورعايته بهدف الاستفادة من كل الطاقات المصرية فى بناء مصر، وبهدف إزالة أى التباس حدث أثناء مراحل البناء والمواجهة التى كانت الدولة فيها تبنى وتحمل السلاح معًا، وبهدف الرد على شائعات ودعايات أطلقت بانتظام تقول إن الدولة تغلق السوق أمام القطاع الخاص، أو تحتكر المشاريع دون القطاع الخاص، أو تطرح منتجات رخيصة بشكل يرهق القطاع الخاص ويجعله عاجزًا عن المنافسة، وربما- أقول ربما- كانت بعض الشكاوى فى محلها، ولكن الأكيد أن بعضها ينطوى على مبالغات، فالبعض انزعج من أنه لم يعد يحقق معدلات ربح تصل إلى مائة فى المائة كان يحققها من قبل وهو ما لا يحدث فى أى مكان فى العالم سوى فى دول يشوب إدارتها الفساد، وأيًا كان الأمر فإن الموضوع كله كان يحتاج إلى حوار تسمع فيه الأطراف لبعضها البعض، وأقول إن على الدولة ومسئوليها أن يطرحوا على القطاع الخاص طموحاتهم فيه، ورؤيتهم لدوره، وهدفهم من تشجيعه، ونصيبه الذى يرسمونه له فى مخطط التنمية، وعليهم فى المقابل أن يستمعوا لمشاكله، ويذللوا له العقبات، بل إننى أظن أن للطرفين عدوًا واحدًا هو البيروقراطية المصرية التى توقف المراكب السائرة وتعطل المكن الدائر، وتسوئ سمعة مصر كمكان للفرص الاستثمارية الواعدة، حيث يشاع أن بعض الموظفين يطلبون الرشاوى لاستخراج التراخيص ولضمان عدم تحرير المخالفات أو تعطيل سير العمل للمستثمرين، وأعتبر أن نجاح المؤتمر الاقتصادى هو فى عرض فيلم قصير لصاحب مصنع ذهب وحصل على الترخيص من شباك واحد خلال ثلاثة أيام عمل فقط كما وجّه الرئيس السيسى، وأعتبر أن نجاح المؤتمر الاقتصادى هو فى إعلان البنوك الكبرى عن مائة صاحب مصنع واعد تم الدخول معهم فى شراكة بالتمويل من أجل تطوير مصانعهم وتوجيه منتجاتها للتصدير للخارج ويا حبذا لو كانوا من أصحاب المصانع غير المرخصة التى أوصى الرئيس بدمجها فى الاقتصاد الرسمى ومساعدة أصحابها، وأعتبر أن نجاح المؤتمر الاقتصادى هو فى تفاوض رئيس الوزراء مع أهم عشرين رجل أعمال فى مصر من أصحاب الشركات التى تزيد ميزانياتها على مائة مليار جنيه، على أن تحل الدولة لهم مشاكلهم كلها فى مجالاتهم الأصيلة مقابل أن يمارسوا فضيلة المغامرة وهى فضيلة رأسمالية أصيلة ويدخلوا بجزء من أرباحهم فى مجالات صناعية تحددها لهم الدولة وفق خطة استراتيجية وفى كل الأحوال فإن الأرباح ستكون لهم حلالًا طيبًا.. إن الهدف من هذا المؤتمر الاقتصادى الذى نترقبه جميعًا أن نؤسس للانفتاح الاقتصادى الثانى على أسس جديدة، فالأولوية للصناعة، ولا بد من تأسيس طبقة من رجال الصناعة الجدد ضمن سياسة تجديد النخبة المصرية، ولا بد للبنوك المصرية أن تدخل فى شراكات تمويلية فى الصناعات التى تملك فيها مصر ميزة تنافسية وأن ترعى التطور الصناعى بنفسها كما فعل طلعت حرب وهو يدير بنك مصر، لا أن تمنح صاحب المصنع قرضًا بفائدة عالية وتقول له اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.. ومن المهم أيضًا أن تحدد الدولة ثلاثة مجالات صناعية فقط نركز جهودنا فيها فى المرحلة الأولى لنصبح من أفضل من يقدم منتجاتها فى العالم، على أن يشمل هذا التركيز تأسيس مدارس متخصصة ومتقدمة للتعليم الفنى وتأسيس مراكز بحثية متخصصة فقط فى الصناعة التى نريد أن ننافس فيها، وفى هذه الحالة فإن علينا أن نتوسع فى التسهيلات فى هذا المجال الصناعى الذى نريد تطويره وليس لأى نشاط استثمارى يريده صاحبه، ولعل هذه كانت أول أخطاء الانفتاح الأول.. أنه أعطى تسهيلات لكل من يريد وليس لكل من يستحق، إننى متفائل جدًا بالمؤتمر الاقتصادى الذى تنعقد جلساته على مدار الثلاثة أيام القادمة فى العاصمة الإدارية الجديدة، وأرى أنه سيكون نقطة تحول قادمة إذا ما خلصت النوايا وشحذت الهمم وتمت المتابعة وحلم الجميع بغدٍ أفضل تستحقه مصر بإذن الله.