«مفهوم الوحي في المسيحيّة».. دراسة جديدة لراعي كنيسة الأقباط في شيكاغو
أطلق القمص يوحنا نصيف راعي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في شيكاغو، دراسة للإجابة عن أحد التساؤلات التي دارت عبر السوشيال ميديا مؤخرًا، لتحمل شعار «مفهوم الوحي في المسيحيّة».
وقال في دراسته: «هل أنزل الله كتابًا باسم العهد القديم، أو كتابًا باسم العهد الجديد؟ ولماذا يُسَمَّى بالعهد؟ وكيف نفهم أصلاً فكرة الوحي؟!»
في البداية من المهم أن نعرف أنّ هناك فرقًا في مفهوم الوحي بين اليهوديّة والمسيحيّة من ناحية، والإسلام من ناحية أخرى.. فالوحي في الإسلام هو وحي التنزيل، أي أنّه طِبقًا للعقيدة الإسلاميّة هناك ما هو مكتوب في السماء في اللوح المحفوظ، وهذا المكتوب ينزل على الأنبياء حرفًا حرفًا.. أمّا في الكتاب المقدَّس فالوحي هو وحي الحقّ ووحي الروح، وليس وحي التنزيل الحَرفي، بمعنى أن روح الله يُلهِم أُناسًا قديسين بالحقّ، فيدوِّنون هذا الحقّ بكلّ أمانة بكلمات مفهومة، قد تتنوّع في اللُّغة والأسلوب، ولكنّها تَحمِل الحقّ الذي يريد الله أن يُشرِق به على البشريّة، كما يعصم روحُ الله كاتبي الوحي من الخطأ.. هذا ما يؤكِّده لنا القدّيسان بطرس وبولس: “لم تأتِ نبوّة قَط بمشيئة إنسان، بل تكلّم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس”، "كل الكتاب هو موحَى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البِرّ. لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهِّبًا لكلِّ عملٍ صالح"..
ومِن هنا لا نستطيع أن نقول إن الله أنزل كتابًا (بالمفهوم الإسلامي) باسم "العهد القديم"، لكنّنا نؤمِن أنّ أسفار العهد القديم هي كتب مقدّسة موحَى بها من الله، تكشف عن الفِكر الإلهي، دوَّنها لنا أناسٌ قديسون.. أمّا لماذا سُمِّيَت بهذا الاسم؟ فهذا لأنّها تحوِي عهد الله مع الشّعب في القديم، وهو عهد محبّة وعهد حياة، وعهد رعاية وحماية، وعهد تقديس وعهد بركة..!
هكذا أيضًا بالنسبة للعهد الجديد، فالسيِّد المسيح لم يَنزِل عليه كتاب باسم "العهد الجديد"، ولا هو كَتَبَ كتابًا وأعطاه للكنيسة، بل بعد صليبه وقيامته وصعوده أرسل لنا روحه القدوس ليسكن فينا، ويسكب حبّه في قلوبنا.. والروح هو الذي يعلِّمنا كلّ شيء، ويذكِّرنا بكلِّ ما قاله لنا، ويُرشِدنا إلى الحقّ، ويعزِّينا في وسط الآلام والضِّيقات، ويقودنا دائمًا في طريق التوبة.. وهو الذي أرشد التلاميذ القديسين للكرازة بالبشارة المُفرِحة (الإنجيل)، البشارة بخلاص الله الذي صار للبشر.. البشارة شفهيًّا بالوعظ والتعليم، وكتابيًّا متمثِّلةً في أسفار العهد الجديد.. هذا العهد الذي قطعه الله معنا بسفك دمه من أجلنا، لكي يغسلنا من خطايانا، ويقتنينا لنفسه، ويهبنا حياة أبديّة فيه..!
فإذا كان الوحي في المفهوم المسيحي هو وحي الروح وليس وحي الحَرْف، فإنّ المسيحيّة لا تتمسّك بلغة معيّنة.. وترجمة الكتاب المقدّس إلى اللغات المتعدِّدة هو أمرٌ مقبول، بل ومطلوب.. لكي يفهم كلّ إنسان بلغته الخاصّة حقيقة محبّة الله له وعمله الخلاصي من أجله.. وحتّى في فهمنا للوصيّة الإلهيّة وتنفيذنا لها، فالمطلوب هو جوهر الوصيّة وروح الوصيّة وليس التمسُّك بحَرْفيّة الوصيّة، كما يقول معلّمنا القديس بولس: "لا الحرف بل الروح. لأن الحرف يقتل ولكنّ الروح يُحيي".
الخلاصة أنّ الوحي في المسيحيّة، هو وحي الروح ووحي الحقّ، وليس وحي الحرف أو وحي التنزيل.. هو إعلان الله للبشر مكتوبًا في الأسفار المقدّسة.. لكي نرتبط به بالروح، ونتمتّع بالخلاص من خلال الإيمان به، والدخول في عهد وشركة معه..!