ميرال الطحاوي «1»: أعيش في منفى اختياري.. وعملي الأخير استلهمته من رحلاتي بين مصر وأمريكا
ميرال الطحاوي، هي التي يصرخ نصها الروائي الجديد" أيام الشمس المشرقة" بالكثير من رؤى التهشيم لمسميات الوطن والهجرة والترحال والعصف في محاولات مستميتة لإخضاع كل هذه المسميات لماكينات السرد الرؤيوى الباحث عن خلاص، وجدوى للعيش.
نجحت الروائية في هذا العمل في فضح زيف العيش والخروج لجنان موعودة عبر الهجرات المتعددة لعرب كان مصيرهم العصف والتشتت وتغوص "أيام الشمس المشرقة" في الكثير من جراح التلاقي مع الآخر بحضارته، ولتبقى العبودية والضياع والموت هم جدوى وحصاد الخروج. ميرال الطحاوي كاتبة روائية وأكاديمية مصرية، تعمل أستاذا للأدب العربي بكلية اللغات العالمية والترجمة بجامعة اريزونا الأمريكية، ومن اشهر رواياتها "الخباء"،"الباذنجانه الزرقاء" التي حازت على جائزة الدولة التشجيعية في الرواية سنه 2002 "نقرات الظباء"، "بروكلين هايتس" التي رشحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية سنة 2011 التي تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، الدستور التقت ميرال الطحاوي..
وإلى نص الحوار
في روايتك ايام الشمس المشرقة هناك تداخل في آليات السرد والبناء وامتزاجهما ما بين اللغة الحسية/ البصرية مع جزالة وفرادة البناء اللغوى وكأنه مزج لا يعبر عن حدث بقدر ما يعبر عن رؤية وجودية لتفاصيل الارتحال وتشظي الوجود.. كيف تفسرين ذلك؟
لن استطيع تفسير ذلك لكنني سأعتبره شهادة جميلة منك تشرفني وتفرح قلبي فأنت أيضا من الأصوات الروائية التي اعتز بصداقتها وأعرف أن تجربتنا تستند إلي محاولة كتابة نص يوازي ويوازن بين النص الأدبي الحداثى مع الاحتفاظ بقواعد اللعبة الروائية الكلاسيكية، خاصة بعد طغيان البني الكلاسيكية التي تعتمد علي الحدوته والدراما الموجهة ورواج الروايات البوليسية وروايات الرعب والجريمة، أي الروايات ذات الحبكة والغموض والأحداث المتلاحقة، التي يتم استهلاكها بشكل كبير، لقد تغير المشهد الروائي تماما لأسباب عديدة، ويمكن أن أرصد ككاتبة النجاح المذهل لرواية عمارة يعقوبيان انخفاض صوت جيل التسعينيات الذي كان يغامر ويحاول خلق نص منعتق من البنية الكلاسيكية، نجاح هذا النوع من الروايات التي بدأت تحتل قوائم أكثر المبيعات و حققت رواجا كبيرا عن القراء الشباب، اغرى الجميع بالعودة للحدوتة وهذا ليس عيبا، لكن الحدوثة ليست الضلع الوحيد في المعمار الروائي، والرواية في نظري أكثر عمقا وتعددا من حدوته، بل هي رؤية فلسفية للوجود، وهذا ما جعل كتابات نجيب محفوظ خالدة ، لأنها تحمل رؤية وجودية لا تبلى، نستطيع آن نسترجع " افراح القبة" و" حديث الصباح والمساء " ونعيد قراءتها واستلهامها لأنها حبكة روائية عميقة وذات دلالة فلسفية، في روايتي وربما في اعمالي كلها أحاول أن أخلق ذلك التوازن، أنني أكتب حكاية نعم الخباز واحمد الوكيل وسليم النجار وميمي دونج لكنهم مجرد ابطال عابرين في تلك الأرض، أنهم فقط يمثلون تلك الشرائح التي تعيش صراعاتها في تلك البلدة التي تسمي الشمس المشرقة، ثمة تراجيديا، لكن الرواية لا تحتفل بالبنية التراجيدية، ثمة راوي عليم، لكنه لا يعلم كل شيء أنه ينقل فقط ما يدعيه البشر عن انفسهم، لذلك تأتي كل المرويات علي سبيل الاحتمال وبعيدة بعدا تاما عن اليقين الذي عرف به هذا الراوي العليم.
عن الغربة المؤدية للتغريب وهذا رغم وضوح الحدث والحكاية في ايام الشمس _ فكيف كانت الدوافع لتلك التوليفة التى تفور وتنضح بتعدد الأصوات وحرفية وفنية استخدام المجاز؟ فمع العدم وظلامية الرؤية للبشر والأمكنة يتلمس القاريء ثمة قصدية في الطرح المجازي وكأنه نوع من الإحالة للواقع المعاش في الوجود وليس في الشمس المشرقة أو مكان الحدث فقط؟
لقد تركت مصر منذ ما يقارب خمسة عشر عاما، قضيت السنوات الخمس الأولى بحثا عن وظيفة اتنقل بين عدة ولايات من نيويورك الي فرجينيا ومن فرجينيا لواشنطن ثم نورث كارولينا، ثم حظيت باستقرار نسبي حين تم تثبيتي في وظيفة أستاذ مساعد للأدب الحديث في جامعة ولاية اريزونا، وهناك بدأت خبرتي بعالم الغرب الأمريكي، (الميد ويست) والبلدات الحدودية التي هي بالأساس مناطق للتهريب والدخول غير الشرعي للمهاجرين، صارت رؤية مناطق الاحتجاز و عربة الترحيلات حدثا يوميا يوازي رؤية مجموعات من المتسللين الذين يفترشون الأرصفة، لا يجمع بينهم سوى القلق وتلك الحقائب التي يحملونها فوق ظهورهم، مشهد عاملات النظافة، و عمالات البيوت اللاتي يعرضن المساعدة اصبح مؤلما، كانت كل البلدات التي تجاور مدينتي تبدأ بكملة شمس لأسباب متعلقة بالمناخ أو الجغرافية وربما مرتبطة بأن تلك البلدات لا يربط بينها سوى ذلك، (سن فالي)، (سن شاين )، (سن هيلز)، لا يجمع بينها سوى تلك الشمس المحرقة المسلطة علي الرقاب أحيانا بلطف وأحيانا كثيرة بقسوة كانت تحيط بي، حين بدأت في كتابة هذا النص أخترت هذا العنوان المؤقت لكنني لم استطع الفكاك منه، سألت عدد من الاصدقاء الذين قرأوا روايتي قبل النشر وكان غالبيتهم يقترح إضافة شيء له كأيام أو أوقات أو بلاد الشمس المشرقة ، وضعت عدة عناوين للصديقة الناشرة فاطمة البودي ولكنها بعد عدة مناقشات كان لها نفس الرأي، المفارقة لم تكن فقط في العنوان وإنما تم توظيفها في عناوين الفصول والبلدات التي تغوي بأسمائها بالجنة والتلال والوديان والمزارع والجبال العالية، اليوتوبيا الأبدية لكنها في النهاية تفقد معناها لأنها ربما تجسد عكس أو نقيض تلك الحقيقة، إنها لا تمت للجنة بصلة، إنها الجحيم الشمسي، جحيم الرأسمالية التي خلقت هذا التفاوت بين المنتجعات في قمم الجبال و منخفضات البؤس الجغرافي والاجتماعي ، تلك الجيوب العرقية التي لا يراها أحد.
مع تعدد الشخصيات والنسائية وتعدد الأصوات الراوية على وجه الدقة،كا نعم الخباز وميمي وعلياء الدوري تظهر نجوى كشاهدة على الاحداث..فمن هي إذا اقرب الشخصيات لروح وتكوبن بل وتطلعات الساردة / الكاتبه؟
بطبيعة الحال كنت اشعر بأنني قريبة من كل الشخصيات النسائية وربما كنت أقرب لشخصية " نجوى " مثلا لأنني ابنة طبقة متوسطة كان لها أحلامها في الهروب والنجاة من الواقع الاجتماعي والاقتصادي لكن ذلك الهرب لم يؤمن لها حياة بديلة ، كما لم يوفر لامها وابيها من قبل، لقد عشت تلك المشاعر الغاضبة وحاولت الخروج واستطعت أن ارصد تلك التناقضات بين الخراب الروحي بين العالمين، عشت طويلا في الأروقة الجامعية في مصر وفي أمريكا وتمنيت أن اكتب عن تلك الصراعات التي لا تنتهي، وعن الابتزاز وعن الفساد وعن الفقر وعن اللاتي استطعن تسلق الطبقة ونجحن في الوصول لأحلامهن الطبقية، لكن ذلك لم يمنع من قربي من شخصيات أخري مثل نعم الخباز وأم حنان وزينب، فأنا أيضا تربيت في قرية واعرف مرارة الريف وتطوراته، بل استطيع أن أقول أن الشخصيات الذكورية أيضا كانت قريبة بشكل ما من خبراتي، لقد وجدت الكثير من صديقاتي يتحدثن معي عن أحمد الوكيل واحداهن قالت أنها تشعر بقرب شديد من شخصية أحمد الوكيل، الهارب دائما والمضطرب والباحث عن معني لهذه الحياة.
المتتبع لنهجك ومسارك الكتابي_ يرى ويحس الكثير من خصوصية وفرادة الإيقاع في اللغة والحكاية وحتى فيما يخص البنية البيلوجية والنفسية لأصوات المرأة الخافت / الصارخ والمرئي / المحجوب فهل لعلاقتك العميقة بتدريس الآداب دورا في تلك التقنية حيث المراهنة على متلقى الخارج قبل الداخل..أم أن مايحدد الايقاع والشكل هو خرائط الحكاية وتقنياتها؟
بالطبع دراسة الأدب تجعل علاقتي بالنص علاقة مزدوجة، وعلاقتك بالكتابة علاقة شائكة، فانت تعرف بالضبط اسرار تلك المهنة، لكن رغم فصول الكتابة الإبداعية ورغم قراءة كل ما يكتبه الكتاب المشهورين عن تقنيات الكتابة وعوامل النجاح وحبكة الطبخة، لكنني مازلت اعتقد أن الكتابة تشبه خبرتك في الحياة ،شخصيتك وتكوينك النفسي ، قدراتك في قراءة الآخرين، وخبراتك في القراءة، ورغم وضوح كل عناصر تلك التجربة الإبداعية، لكنها تظل متفردة ، هناك تعبير في الاصالة، أن يحمل نصك جزءا من تاريخيك ولغتك وتطور قدراتك في الكتابة ويعكس تطور وعي الكاتب بعملية الكتابة، لذلك تصبح بعض التجارب متكررة ، وبعضها محبوكة لكن ليس لها نكهة وبعضها بلا طعم، اعجبني تحليل صديقي عزت القمحاوي لمفهوم الكتابة بانها في النهاية مجرد طبخة، أحب أن اذكر نفسي بذلك، وأن اعرف أنه في الحقيقة ليست هناك نصوص عظيمة في المطلق ولكن هناك نصوص تثير التشهي وأخري لا تستطيع اكمالها لأنها لا تتناسب مع ذوقك أو لا تنسجم مع اللحظة التي تعيشها.
_عن المكان كمتخيل وحقيقة، كيف تأت لك كل هذا الحضور للذاكرة عن رحلة عمرك في الخروج والدراسة. وكم من الوقت المنقضي في التحضير أو الإعداد لرواية " أيام الشمس المشرقة؟ وكيف استلهمت فكرتها؟
"لا يبعث على الأحزان مثل العيش في المنفي وكان الحكم بالنفي في العصور التي سبقت العصر الحديث عقوبة بالغة الشدة فالنفي لا يقتصر معناه علي قضاء سنوات في الشعاب هائما علي وجهه بعيدا عن أسرته وعن الديار التي ألفها بل يعني إلى حد أن يصبح إلى الأبد محروما على الدوام من الإحساس بأنه في وطنه".
ربما لا ينطبق ذلك الحال الآن علي ظروف المنفي الاختياري في العصر الحديث، ذلك الخروج الذي سعي إليه الكثير من الكتاب العرب في السنوات الأخيرة لأسباب تعددت، كالحروب والنزوح القسري و التغيرات السياسية وغيرها، صحيح أن العالم أصبح اصغر، وأن وسائل التواصل الاجتماعي التي تسمح بتبادل التحيات ومتابعة الاحداث خففت قليلا من ثقل الغربة، لكن بطريقة أو بأخري انقسم العالم الواحد لعالمين، جزء منك ذاكرتك وأصحابك و وذكرياتك في مكان ما وجزء هناك في عالم آخر ، بالنسبة لي لم استطع ابدا التخلص من الإحساس بأنني صرت انتمي بشكل ما لعالمين متناقضين ، خاصة وأن طفولتي ونصف عمري عشته كأبنة عرب ، أي في ظل ثقافة قبلية شديدة التحفظ ، ورغم التجربة فإن التحرر من كوابح العرف القبلي في الكتابة ظلت تلازمني ، في الشمس المشرقة تحررت نسبيا من الخوف ورغم أنني حذفت الكثير من الجمل التي بدت لي غير لائقة ، لكنني فعلت ذلك دون خوف ، سمحت ليدي أن تكتب تلك الشخصيات التي لا تشبهني ، وتلك الالفاظ التي كنت اسمعها التي لم اجرؤ علي استخدامها في الحياة ، ثم تركت للراوي أن يتحرك داخل النص بلا حذر بسخرية و فجاجة وعنف ، بدأت في كتابة هذه الرواية سنة ٢٠١٥ ، لكنني كنت اكتب ثم يطرأ ما يبعدني عن النص ، انشغالات ومصاعب الحياة غير المتوقعة ، الفقد والمرض و الركض خلف مهام الحياة كأم وأستاذة جامعية ،ثم في نهاية كل مرة أعود و وأواصل وكان ذلك هو الهامش الوحيد الذي يعيدني للحياة ككاتبة مرة أخري ، إن ذلك ما أردت أن أكون وتمنيت أن أعيش له . لا استطيع أن أتحدث عن إعداد ، كانت الشخصيات تتحرك بماضيها وحاضرها حولي ، تركض علي أرصفة الشمس المشرقة طوال الوقت وكنت فقط أحاول أن استعيد لياقتي ككاتبة لأكتبها.
_ وكيف استلهمت فكرتها؟
استلهمت عالمها من رحلتي الطويلة في التنقل بين الولايات الامريكية كأستاذة جامعية تنقلت في العمل بين عدد كبير من الجامعات ومهاجرة تركت بلدي منذ مدة طويلة، وامرأه عربية أو من العالم الثالث ، اعرف بطبيعة الحال كيف مناطق المهاجرين و تجمعاتهم وحوانيتهم و مدارس أبنائهم ، وكنت ابحث عن هذا العالم في تلك الرحلة ، وتعرفت فيه علي الكثير من النماذج البشرية التي لا استطيع نسيانها ،
كل شخصيات الرواية مطاردون ومنفيون ومسحوقات فهل كان هناك قصدية بأنه لا أمل في هذي الحياة للتحرر من العبودية.. ليتك تطرحين رؤيتك فيما يخص تلك الإشكالية الوجودية؟
أنا أعيش ف بلد يعد أكبر مستقبل للمهاجرين واللاجئين، وقارة تأسست علي الهجرات وتعيش كل يوم أكبر حالات التسلل عبر حدودها ، بل لا يمكن عد عدد البشر الذين يموتون جوعا وعطشا علي حدودها قبل أن يقضوا نحبهم في محاولة للعبور، وأنا أعيش في ولاية حدودية، كما قلت اشاهد يوميا القادمون الجدد يتوسدون الأرصفة ويبحثون بلا كلل عن بقعة تظللهم من قسوة الشمس، تجت الجسور وفي الحدائق العامة و بين مخلفات البيوت، إن قضايا الهجرة، والهجرة غير الشرعية وقوارب الموت قضايا يومية في تلك البلاد.
في غالبية أعمالك بداية من نقرات الظباء والخباءو حتى كتابيك الذان رشحا تباعا لجائزة زايد للآداب " بنت العربان" وكتابك الأخير " بعيدة برقة علي المرسال" كان هناك رؤي صلده لماهيات التغريب والغرابة فهل لتكوينك النفسى كأبنة عرب ، هل تؤرخين للقبائل العربية التي دخلت مصر منذ الفتح الإسلامي وعن سيادة العنصر العربي وهل كتابك كان انتصار لهم ضد أصحاب الأرض وهم المصريين؟
عند نص قصير في كتابي الأخير "بعيدة برقة علي المرسال" وهوعن تجربتي كأبنة عرب أو بنت شيخ العربان، تجربتي كفتاة جاءت من قبيلة وعنت ما تعانيه أي بنت عرب من قهر وإن شئت تدريب علي الطاعة بعنوان: ناقة
يقولون بنت العرب مثلا لناقة الطوع (الطائعة) تنقادُ للجامك، تصبرُ على قسوتك، وتحتملُ وتحمل العابرين فوق ظهرها؛ لأنها حمُولٌ، ولا تطلب متاعًا ولا كلأ ولا تصبرُ على نزُوحك من تلَّةٍ إلى أخرى ومن ربعٍ إلى ربعٍ وتسيرُ عارفةً طريقها بين التلال المحنية الظهر مثلها، مستكينةً صابرةً منكسرةً؛ لأن ذلك ما هو مُتوقَّع منها.
في بنت شيخ العربان رصدت تاريخ القبائل العربية، رصدت ذلك ككاتبة وساردة، تحاول أن تجعل من التاريخ الموثق والمدسوس في ثنايا الكتب القديمة مادة لتفسير علاقة العرقية داخل في المجتمع المصري، لم انتصر لأحد لأننا في النهاية قبط وعرب وفلاحين مصريين نكون هذا النسيج، لكنني سعيت للفهم، فهم تلك العلاقة المعقدة بين تلك الجبهات التي يحمها النزاع أحيانا والعيش في ظل التراض معظم الأحيان، القبائل العربية في مصر جزء من تاريخي الشخصي وجزء من تاريخ هذا الوطن، لقد بحث طويلا وحاولت صنع صورة كبيرة عن ظهور وسيادة العنصر العربي، كما يقول المؤرخين منذ الفتح وعلاقة تلك القبائل بعرابي ومن بعده عبد الناصر، وهي علاقة معقدة ولكنها تكشف الكثير من طبقات هذا الوطن.