حصاد أسبوع ساخن من عمر الأزمة الأوكرانية
ذهبت غالبية التوقعات إلى انتظار «ردة فعل» روسية ستشهدها جبهات القتال فى أعقاب استهداف جسر شبه جزيرة القرم، باعتباره إحدى المنشآت الاستراتيجية الروسية الذى يتمتع بوضعية استثنائية، كونه الجسر الذى يبلغ طوله «١٩ كم» وهو الأطول فى روسيا، فضلًا عن ترجمته حالة «السيادة» المتنازع عليها بين كييف وموسكو على أراضى شبه الجزيرة.
روسيا من قبل اشتعال الحرب الأخيرة وهى تؤكد أن القرم صارت أراضى روسية إلى الأبد، ولن تقبل حديثًا بشأنها من أى طرف، ومن ثم قامت بالعمل على مشروع هذا الجسر العملاق منذ اللحظة الأولى لاستيلائها على شبه الجزيرة عام ٢٠١٤، وقامت بافتتاح وتشغيل الجزء الخاص بحركة مرور السيارات فيه مايو ٢٠١٨، وتم إطلاق حركة القطارات عبر الجسر فى ديسمبر من عام ٢٠١٩.
روسيا لم تكتف برفض الحديث أو التفاوض مع أى طرف لا سيما الأوكرانى فيما يخص أراضى القرم، بل وضعت فى بداية الحرب مسألة «الاعتراف» بالسيادة الروسية النهائية على شبه الجزيرة من قبل كييف والمجتمع الدولى، كأحد الشروط الرئيسية لقبولها التفاوض بشأن إنهاء عمليتها العسكرية فى أوكرانيا. هذا بالطبع يعكس الأهمية المحورية الاستراتيجية التى توليها موسكو لتلك القضية، ولهذا النطاق الجغرافى الذى تعده أحد خطوطها الحمراء الغليظة التى لا تقبل القسمة. لهذا اعتبر أن ما بعد «عملية الجسر» لن يكون بأى حال مثلما كان قبلها، على الأقل من جانب روسيا، فيما راقبت بضيق مكتوم كيف جرى توصيف العملية من الجانب الأوكرانى وربطها بعملية إغراق الطراد الأشهر «موسكوفا» أبريل الماضى. فكلتا الضربتين وصفتا بأنهما تعكسان نجاحًا أوكرانيًا فى تحقيق إذلال نوعى للعسكرية الروسية، بالنظر إلى طبيعة الهدفين وموقعهما فى قلب المجال الحيوى للنطاق الجغرافى الأهم، المشار إليه وارتباطه بشبه جزيرة القرم، فإحداهما وقعت فى المجال البحرى المواجه لها، والأخرى توجهت إلى الرابط البرى الهندسى بين ضفتى الجسم والفرع.
لم تمض ساعات بعد «عملية الجسر» حتى تمثلت ردود الأفعال الروسية، بداية فى إجراء تغيير فى القيادة العسكرية الميدانية للعملية الخاصة بأوكرانيا، ليتولى الجنرال «سيرجى سوروفيكين» هذا المنصب اعتبارًا من بداية هذا الأسبوع. ورغم أن الشريحة القيادية العليا للجيش الروسى شهدت العديد من التغييرات فى غضون شهور الحرب الأوكرانية، وكان هذا لافتًا ومثارًا لكثير من التساؤلات حول البعض منها، إلا أن تولى سوروفيكين فى هذا التوقيت وخلفيته وتاريخ أدائه الميدانى يجعل الأمر هذه المرة أكثر لفتًا للانتباه، ويحمل من الدلالات ما أكدته أحداث الأسبوع الساخن من عمر الحرب. سوروفيكين من مواليد عام ١٩٦٦ وتخرج فى كلية القيادة بالأكاديمية العسكرية ١٩٩٥ برتبة الشرف، ثم من الأكاديمية العسكرية لهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة للاتحاد الروسى برتبة الشرف أيضًا سنة ٢٠٠٢. وتولى خلال مشواره المهنى مجموعة من المناصب القيادية، كما شارك فى العديد من الحروب، أهمها فى طاجيكستان فى تسعينيات القرن الماضى، ثم الحرب الشيشانية الثانية ١٩٩٩، ليبدأ مع العام ٢٠٠٥ فى تولى مناصب عسكرية مهمة، أولها عام ٢٠٠٥ كنائب لرئيس الأركان، خلالها ترأس إدارة العمليات الرئيسية لهيئة الأركان العامة بين عامى ٢٠٠٨ و٢٠١٠، حيث حقق خلالهما سمعة عسكرية متميزة أهلته كى يصبح قائدًا عامًا للمنطقة العسكرية الشرقية فى ٢٠١٣. لكن تظل أشهر المحطات فى تاريخ الجنرال «سيرجى سوروفيكين» توليه قيادة القوات الروسية فى سوريا لفترتين؛ الأولى بين مارس ٢٠١٧ حتى ديسمبر ٢٠١٧، والثانية كانت بين يناير وأبريل ٢٠١٩.
فى الميدان السورى شهدت فترة قيادته الأولى أحداثًا عسكرية كبيرة، أهمها وجوده على رأس القوات الروسية أثناء استهداف مدينة «خان شيخون» بالسلاح الكيماوى فى أبريل ٢٠١٧. كل تقارير المتابعة السورية والأممية التى تابعت هذه العمليات؛ وثقت تأييد ومساعدة القوات الروسية تحت قيادة سوروفيكين للقوات السورية، مما سهل لها النجاح فى تدمير هذه المناطق وإيقاع مئات من الضحايا المدنيين، هناك تحقيق دولى ضم عشرات الشهادات والوقائع لا يزال مفتوحًا منذ هذا التاريخ حتى الآن. فى حين نال سوروفيكين لقب بطل «الاتحاد الروسى»، لأدائه العسكرى فى سوريا فى ٢٠١٧ ولما قام به فى سنة ٢٠٢٠ من انتصارات متتالية، فى مناطق شهدت هى الأخرى تدميرًا واسعًا لمنشآت مدنية، منها مركز طبى، ومقر لمنظمة الدفاع المدنى السورى كانا يقدمان خدمات الإسعاف لمصابى الهجوم الكيميائى. وفيما يتناقل من سيرته أنه منذ وجوده فى سوريا طور علاقة عمل جيدة مع «شركة فاجنر» العسكرية الخاصة، وغيرها من كيانات الظل التى تتعاون مع الجيش الروسى، لذلك رحب بتعيينه فى المنصب الجديد من قبل كبار أنصار الحرب فى أوكرانيا، مثل الرئيس الشيشانى الموالى للرئيس بوتين «رمضان قديروف» ورئيس شركة فاجنر «يفجينى بريجوزين».
فور تولى الجنرال سوروفيكين منصب القيادة الجديد؛ سجل النصف الأول من هذا الأسبوع الساخن وحده، تغيرًا كبيرًا فى تكتيك القصف الروسى بعيد المدى للأراضى الأوكرانية، فعبر سلسلة من الهجمات الصاروخية المركزة ضد أهداف مدنية فى جميع أنحاء أوكرانيا، تضمنت تقاطعًا لطرق رئيسية بالقرب من منشآت عامة وخدمية، مما تسبب فى قطع الكهرباء وتعطيل المرافق الحيوية عن «٣٠٠ منطقة» فى جميع أنحاء أوكرانيا، أهمها ما وقع فى كييف العاصمة وضواحيها. هذا يؤشر إلى أن الحرب الروسية على أوكرانيا دخلت مرحلة جديدة بالفعل، ستشهد العديد من المتغيرات لن تقف عند حد استهداف البنية التحتية ومعها معنويات الشعب الأوكرانى، بل ستمتد لتطال الإمدادات الغربية للجيش الأوكرانى، وهو أكثر ما هدد به الجانب الروسى مؤخرًا. لذلك اعتبرت خطوة تعيين سوروفيكين بمثابة ترميم رأسى لما شهدته الجبهة من تصدعات مؤخرًا على عديد من المحار، أهمها بالطبع اختراقات الهجوم المضاد الناجح فى مناطق بالأقاليم الأربعة. وهناك على جانب آخر ترميم أفقى ينظر إلى أنه سيكون على نطاق واسع، بالنظر إلى الدعم المباشر للرئيس بوتين الذى يحظى به، تمثل بداية فى خطوة «التعبئة الجزئية» التى تستهدف علاج خلل النقص العددى فى أكثر من محور، والتى شهدت بروز التفوق الأوكرانى، وقد ورد ذلك فى تقارير الاستخبارات الروسية العسكرية كمسبب رئيسى للانعطافات التى وقعت مؤخرًا.
الترميم الأفقى للجبهات، تراهن فيه موسكو على أن الزيادة العددية المتوقعة للقوات الروسية فى أوكرانيا بعد استكمال التعبئة الجزئية هناك، مع إحداث نقلة نوعية فى حجم ونوعية التسليح والذخائر المتعهد تدفقها خلال الأسابيع المقبلة، من المرجح أن يغير ذلك الوضع بشكل كبير لصالح روسيا، كون الجيش الأوكرانى سيكون حينها فى مواجهة مع جيشين تقريبًا، أحدهما جديد تمامًا ويدخل مسارح العمليات للمرة الأولى بالحيوية والإمكانات الجديدة، المزمع أن توازن تدفق السلاح الغربى إلى الجانب الأوكرانى.